يميز الفيلسوف الأميركي المعروف «جون رولز» بين ثلاثة أنماط من المجتمعات هي المجتمع الليبرالي الذي تقوم بنيته القاعدية على المساواة في الحقوق الأساسية وعلى مبدأ «التعددية العقلانية»، والمجتمع التراتبي اللائق decent hierachical الذي لا يقوم فيه فصل بين الدين والدولة ويتأسس على مفهوم مسبق للخير العام ولكنه يحترم مبدأ التسامح ويعترف بالحقوق الأساسية للإنسان، والمجتمع الاستبدادي الذي هو حالة سياسية خارج القانون لا يمكن أن تندمج في المنظومة العالمية المتضامنة. وإذا كانت المجتمعات العربية لا تدخل إجمالاً في الصنف الليبرالي لأسباب ليس هنا مجال ذكرها، فإنه يمكن التمييز داخلها بين النموذجين اللائق والاستبدادي، بحسب معايير ثلاثة أساسية: أولها: نمط بناء الدولة وتنظيم المجتمع: المجتمعات اللائقة هي التي تسعى لبناء مؤسسات عمومية قوية تكفل اندماج مواطنيها وتوفير فرص العيش الكريم لهم، وتقيم الهياكل الإدارية الفعالة المناسبة لتدبير الشأن العمومي. إنها مجتمعات «جيدة التنظيم» بلغة «رولز» في مقابل المجتمعات المفككة الهشة المعرضة للتفكك والانقسام. ثانيها: نمط العلاقة بين الحاكم والمحكومين: المجتمعات اللائقة هي التي تقوم فيها العلاقة بين السلطة والمجتمع على أساس الثقة والقرب لا القوة والعنف، فحتى في غياب نظم مؤسسية منتخبة أو تمثيلية يمكن للشرعية التوافقية في دلالتها التلقائية المباشرة أن تضمن حداً مقبولاً من العدالة والاستقرار السياسي لا يتوفر في الأنظمة الاستبدادية الأحادية. ثالثها: احترام الحقوق والقوانين الأساسية: المجتمعات اللائقة تقوم على قاعدة قانونية صلبة وتحترم حقوق الإنسان الأساسية، في مقابل المجتمعات الاستبدادية الفردية التي تحول المدونة القانونية إلى أداة إكراه وتسلط وهيمنة، ولا تتردد في انتهاك معايير الكرامة الإنسانية باسم الأيديولوجيا أو منطق الدولة. والمجتمعات اللائقة العربية في أغلبها مجتمعات تحكمها أنظمة معتدلة ملكية أو أميرية استطاعت أن تقفز بشعوبها قفزات نوعية في مجال التنمية الاقتصادية والإنسانية، وهي مجتمعات لم تعرف السياسات الاستبدادية القمعية والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، كما أنها طورت آليات قانونية فعالة في تسيير الشأن العام، حتى لو لم تعتمد إلا جزئياً أنظمة التمثيل الليبرالي التي تعوقها عوائق مجتمعية موضوعية في العديد من الحالات. وإذا كان المغرب والأردن وهما بلدان ملكيان شهدا تحولاً مهماً نحو النموذج الليبرالي (الملكية الدستورية) فإن البلدان الخليجية التي اعتمدت في عمومها خلال العقدين الأخيرين إصلاحات سياسية داخلية في إطار مأسسة عملية التشاور والتداول العمومي هي مجتمعات لائقة باصطلاح «رولز»، على عكس الديكتاتوريات العسكرية والحزبية التي حكمت جل الدول الجمهورية العربية مشرقاً ومغرباً. كيف نصنف البلدان العربية التي تمر حالياً بمسار الانتقال الديمقراطي، كما هو شأن بلدان «الربيع العربي» التي تتأرجح بين نمط من «التعددية العنيفة» (غير المعقلنة بلغة رولز) ونمط من الليبرالية غير المستقرة؟ في الحالتين، نلاحظ أن بنية الاستبداد قد انهارت عملياً، ولكن هذه البلدان لم تتمكن من بناء مجتمعات ليبرالية جيدة التنظيم، فتحول بعضها إلى «دول فاشلة» (كما هو حال ليبيا واليمن) ولا يزال البعض الآخر يحاول جاهداً الجمع بين مساري هندسة البناء السياسي للدولة وتكريس الحريات العامة. هل يمكن للمسارين أن يتزامنا عملياً؟ ألا يقتضي البناء الديمقراطي المستقر توفير البنية المؤسسية الإدارية المستقرة القادرة على امتصاص صدمات المنافسة السياسية الحرة؟ إنه الإشكال الرئيسي المطروح راهناً على النخب السياسية العربية في ضوء تجربة تعثر وإخفاق حركية «الربيع العربي» التي تقلص وهجها وانحسر ألقها بعد استفحال الفتن والحروب الأهلية والإرهاب العدمي في أغلبها. قد يكون الجواب البديهي هو أن المجتمعات العربية اللائقة التي هي اليوم مركز الاستقرار والفاعلية في النظام الإقليمي العربي هي المؤهلة للإسهام في تسديد ديناميكية التحول الداخلي في البلدان التي تواجه مصاعب التحول الانتقالي. وما تبينه تجربة هذه المجتمعات اللائقة هو أن التحديث الاستبدادي (الأنظمة الثورية الأيديولوجية) يفضي حتماً الى تقويض لحمة المجتمعات ويعرضها للانهيار عند أولى صدمات الانتقال الديمقراطي، في حين أن هذه المجتمعات اللائقة بتوطيدها لبناء الدولة ومؤسساتها المجتمعية والقانونية تهيئ الأرضيّة الملائمة للانتقال الآمن نحو الأفق الليبرالي.