يبدو أن آسيا تواجه مشكلة حقيقية تمثلها الصين، فقد أطلقت بكين لتوها أكبر عملية تخفيض لاحتياطاتها المصرفية منذ عام 2008، وهي خطوة تؤكد درجة انشغالها بحالة الاقتصاد، إلا أنها أكثر من ذلك تعتبر أيضاً خطوة تنبيهية لجيرانها الذين ألفوا ركوب موجة النمو الصيني والاستفادة منه طيلة السنوات الماضية. فعلى امتداد العقد الأخير شكل النمو المطرد للاقتصاد الصيني ترياقاً مناسباً ضد الأجواء المعتمة عالمياً والوضع الاقتصادي المضطرب، غير أن ما تشهده الصين الآن من تباطؤ للنمو عليه أن يثير قلق المسؤولين الإقليميين من سيؤول حتى جاكارتا. ولعل مما يؤكد المخاوف إقدام البنك المركزي الصيني خلال الأسبوع الجاري على تعديل نسبة الاحتياطيات التي يتعين على البنوك الاحتفاظ بها قبل تقديم القروض، فتخفيض تلك النسبة بواحد في المئة لا يترك أدنى مجال للشك في أن بكين، وبعد تراجع أسعار السلع الأساسية مثل الحديد وغيره، بدأت تدرك أن اقتصادها سائر نحو التباطؤ بنسبة أكثر مما توقعه الرئيس «تشي جيبينج»، وأكثر من ذلك توحي الإشارات المتناقضة القادمة من بكين بأن المسؤولين الصينيين في حيرة من أمرهم. وهذا التضارب تؤكده الإجراءات الأخيرة، فقرار البنك المركزي الصيني خفض احتياطيات البنوك من العملة لتحرير أكثر من 194 مليار دولار وضخها في السوق، سبقه قرار آخر للهيئة المنظمة للأوراق المالية بكبح هامش التداولات في البورصة لمنع حدوث الفقاعة، والمشكلة أنه في الوقت الذي حذرت فيه بكين الصينيين بتعدادهم البالغ 1,3 مليار نسمة من مغبة الاعتماد المفرط على سوق الأسهم، كانت بالتزامن مع ذلك ترفع القيود للسماح للمستثمرين بفتح ما لا يقل عن 20 حساباً للتداول في البورصة. والحقيقة أن هذه السياسة الأخيرة التي تتجه نحو سوق الأسهم كتعويض عن تباطؤ القطاعات الاقتصادية الأخرى، يفترض فيها أن تقلق أي مراقب يرنو إلى تفادي انهيار الاقتصاد الصيني، وهو ما عبر عنه سوق الأسهم بمرتين خلال ستة أشهر، فذلك يدعو فعلاً للقلق». ولكن بالنسبة للمستثمر «باتريك شتوفانيك»، وهو صاحب شركة لإدارة الأصول، قائلاً: «عندما يتضاعف حجبه لصناع القرار الاقتصادي في الصين الذين حاولوا ترتيب تباطؤ منظم للاقتصاد الصيني فهم يشعرون بأن خياراتهم محدودة، وقد اعتمدوا منذ 2008 على مشاريع البنية التحتية الضخمة وانتعاش القطاع العقاري لتفادي سقوط مؤلم للاقتصاد. غير أن تلك القطاعات استنفدت اليوم قدرتها على النمو، الأمر الذي دفع الرئيس «تشي» ومحافظ البنك المركزي إلى الاعتماد كلياً على سوق الأسهم. أما عن مدى قدرة هذه السياسة على الاستمرار فهذه مسألة أخرى يشير إليها الخبير الاقتصادي، «آدام سلايتر»، من جامعة أوكسفورد، قائلاً: «إن الاعتماد على سوق الأسهم ينطوي على مخاطر فيما يتعلق بالديون السالبة ومشاكل القطاع المصرفي، وأيضاً ما يترتب عنها من هروب رأس المال الأجنبي». وفي جميع الأحوال يبقى من الواضح أن أي انهيار للاقتصاد الصيني سيُلقي بظلاله المباشرة على عموم القارة، فحجم الاقتصاد الصيني البالغ 9,2 تريليون دولار هو الأكبر في آسيا، كما أن التباطؤ الصيني بدأ بالفعل في تعرية بعض الشروخ على مستوى القارة، فبعد عقد كامل من الأداء المتميز لا يتجاوز النمو الحالي في آسيا ما كان عليه في بداية الألفية الثالثة، وهو ما يحذر منه الباحث «سلايتر»، قائلاً: «في رأينا تزايدت المخاطر بالنسبة للأسواق الناشئة التي تمثل نصف الاقتصاد العالمي»، مضيفاً أن النمو في تلك الأسواق، فيما عدا الصين، لن يتجاوز 2 في المئة خلال السنة الجارية مع احتمالات التباطؤ أكثر. ولذا تحتاج آسيا لوضع خطط تنموية تجعلها أقل اعتماداً على الصين وأكثر استناداً إلى الاستهلاك الداخلي، ومع أنه من الصعب تقديم وصفات عامة تنسحب على الجميع بالنظر إلى التباينات بين البلدان الآسيوية، إلا أنه في المجمل يتعين على الاقتصادات الآسيوية النامية البدء في تقليص الحواجز الجمركية، والتقليل من العوائق البيروقراطية، والتصدي للفساد، بالإضافة إلى تطوير البنية التحتية، والحد من الضرائب المفروضة على المنتجات المصنعة إقليمياً لرفع الصادرات ومعها الزيادة في الأجور. وعن هذه الإصلاحات الضرورية يقول الخبير الاقتصادي «فريديريك نيومان»: «لقد شهدت آسيا طيلة السنوات الماضية فترة من الانتعاش والازدهار بفضل الإصلاحات التي اتخذتها في فترة سابقة، وأيضاً بفضل سياسة التحفيز المالي التي دعمت الاقتصاد، ولكن ذلك أدى إلى إهمال مواصلة الإصلاح، حيث أعفت آسيا نفسها من القرارات الصعبة سياسياً وفضلت الاستمرار في المكاسب السهلة». --------- كاتب أميركي متخصص في الشؤون الاقتصادية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»