من جديد تجتاح بلدان العالم المتقدم حملة اندماجات كبيرة ومتتالية ستترتب عليها تداعيات مهمة على سير التطورات الاقتصادية الدولية، إذ أعلن مؤخراً عن استحواذ شركة «شل» العملاقة العاملة في مجال النفط والطاقة على شركة «بريتش غاز» بصفقة بلغت 50 مليار دولار لتليها بعد ثلاثة أيام الإعلان عن استحواذ شركة «نوكيا» الفنلندية على شركة «الكاتل» الفرنسية للاتصالات بمبلغ 15 مليار دولار، وسبقهما في شهر مارس الماضي اندماج شركة «كرافت» مع «هاينز» بمبلغ 28 مليار دولار ليشكلا معاً ثالث أكبر شركة أغذية في الولايات المتحدة، وخامس أكبر شركة على المستوى العالمي. أما إجمالي مبالغ الاستحواذ والاندماج في العام الماضي 2014، فقد بلغت من 3.34 تريليون دولار بارتفاع 5% عن عام 2013. هذا التركز الشديد لرأس المال يعني الكثير للاقتصاد الدولي وتوجهاته المستقبلية، في ظل تراجع مستمر لدور الدولة الاقتصادي وزيادة هيمنة الشركات الكبيرة والتي تتجاوز موجوداتها في أحيان كثيرة موازنات وقدرات الدولة ذاتها. ومن بين أمور أخرى عديدة، فإن استمرار هذا النهج المصاحب لتطور النظام الاقتصادي سيؤدي إلى تقوية مراكز الشركات الاحتكارية وتحكمها في الأسعار، والتي أخذت منحى تصاعدياً في السنوات الماضية تزامناً مع عملية الاندماجات والاستحواذات، إذ أن ذلك يقلص من المنافسة بين الشركات العاملة في نفس القطاع بحكم تقلص أعدادها، مع العلم أن هناك رقابة للحماية من الاحتكار، كما أن الهدف الأساسي لعمليات الدمج، يكمن في تقليص النفقات، والتي ستنخفض في صفقة «كرافت- هاينز» على سبيل المثال بمقدار 1.5 مليار دولار سنوياً. يتزامن ذلك مع تمدد أنشطة هذه الشركات ليشمل كافة بلدان العالم تقريباً، مما يعني تعاظم أرباحها وزيادة تحويلات هذه الأرباح لبلدانها الأصلية، مما قد يحرم العديد من الدول من استثمارات كبيرة تحققت داخل حدودها بصورة رئيسية، وبالتالي يزيد من تفاقم البطالة ويحد من معدلات النمو، وبالأخص في البلدان الفقيرة. من جهة أخرى لا نشهد نفس التوجه لدى شركات ومؤسسات البلدان الناشئة، ناهيك عن البلدان النامية، مما يعني صعوبة إقدام معظم بلدان العالم على المنافسة في الأسواق الدولية، وذلك على الرغم من تمتعها بميزات تنافسية قوية، كرخص الأيدي العاملة وتوفر المواد الأولية بأسعار مناسبة، إلا أن هذه الأفضليات تقف عاجزة أمام هيمنة الشركات الاحتكارية، والتي يبدو أنها تعمد إلى مثل هذه الاندماجات للتأقلم مع أوضاع بلدانها التي تمنع الاحتكار وتعاقب عليه وفق القوانين والأنظمة المعمول بها، كما هو الحال في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. والحقيقة أن درجة تكثف رأس المال في البلدان الناشئة والنامية لا تتيح عمليات الاندماج والاستحواذ بهذه السهولة المتاحة في البلدان المتقدمة، إذ أن ذلك بحاجة إلى درجة عالية من نمو الإنتاج المرافق للتقدم التقني وتركز رأس المال، علماً بأن كافة الشركات المندمجة أو المستخوذ عليها هي شركات عامة ومدرجة في أسواق المال الدولية، وذلك على العكس من معظم الشركات الكبيرة العاملة في البلدان النامية والتي تعتبر شركات مقفلة. ويتطلب الأمر في هذه الحالة تطوير هيكلية المؤسسات الاقتصادية لتتلاءم ومستجدات المنافسة الدولية المحتدمة، فإذا أخذنا بعض الصناعات المهمة العاملة في دول مجلس التعاون الخليجي على سبيل المثال، فإننا سنجد أن الصناعات البتروكيماوية وصناعة الأولمنيوم تحتل مكانة بارزة في اقتصادات هذه البلدان، وتساهم بنسب كبيرة في ناتجها المحلي، وبفضل السوق الخليجية المشتركة، فإن اندماج هذه الشركات المتنافسة في بعض الأحيان لا بد وأن يُطرح على بساط البحث لتخفيض نفقاتها وتقوية مراكزها في الأسواق الدولية ورفع قدراتها التنافسية، خصوصاً وأن المواد الأولية اللازمة لهذه الصناعات أضحت متاحة للكثير من بلدان العالم، بما فيها تلك المستوردة للنفط والغاز، إذ إن تحقيق ذلك سيتمخض عنه نتائج إيجابية على أكثر من صعيد للاقتصادات الخليجية.