مع تعثر المفاوضات اليونانية وتزايد حدة الخطاب، وأيضاً مع اقتراب موعد سداد الديون، بات واضحاً أن خروج اليونان من منطقة اليورو احتمال أكثر من وارد، وهو خروج لن يأتي نتيجة قرار مسبق ومدروس، بقدر ما سيكون ناجماً عن واقع مفروض وحادثة مؤلمة، ولفهم ما يجري للاقتصاد اليوناني لا بد من توضيح بعض الحقائق وتبيين المعطيات، فما يجعل اليونان اليوم أقرب إلى الخروج من العملة الأوروبية الموحدة هو نفاد خزينتها من المال، إذ باتت أقرب إلى التعثر عن سداد مستحقاتها للدائنين، لا سيما صندوق النقد الدولي، وفي ظل هذا الوضع بدأ المستثمرون ينسحبون من السوق اليونانية ويتخلون عن الأصول التي في حوزتهم مخافة القادم، هذا فيما انطلقت عملية سحب الودائع البنكية وتهريبها للخارج، والنتيجة حرمان الاقتصاد اليوناني من موارد إضافية والدفع بالبلاد إلى الاعتماد أكثر على «قروض الطوارئ» من البنك المركزي الأوروبي. هذا الوضع الحرج يجعل من الضروري البحث عن مخارج وحلول والتي تتمحور إجمالا حول أربعة مكونات أساسية، إذ يتعين أولا الانخراط الجاد والفعلي في الإصلاحات، ثم هناك حتمية الاستمرار في تمويل الاقتصاد اليوناني من قبل الدائنين، هذا بالإضافة إلى خفض الديون، وأيضاً تخفيف سياسة التقشف في الموازنة، هذه الإجراءات يتعين تطبيقها بالتزامن على أن يصاحبها تنسيق حثيث ومشاورات مستمرة بين الحكومة اليونانية المعنية بالأمر والحكومات الأوروبية الشريكة معها، فضلا عن المؤسسات الإقليمية مثل البنك المركزي الأوروبي، والأخرى الدولية على غرار صندوق النقد الدولي. ومع أنها ليست المرة الأولى التي تصل فيها اليونان إلى لحظة دراماتيكية خلال السنوات الأخيرة وتقف عند حافة الهاوية قبل التراجع، إلا أن الاختلافات الحادة في كيفية التعاطي مع الأزمة تنطوي هذه المرة على خطورة كبيرة. فالحكومة اليونانية وإن كانت في بعض الأحيان تتبنى منطقاً اقتصادياً مفهوماً، إلا أنها فشلت في إقناع الدائنين وتقديم إشارات على أنها ما زالت ملتزمة بالإصلاحات الاقتصادية الضرورية. هذا الفشل يرجع في جزء منه إلى أساليب التفاوض غير الموفقة التي طغى عليها تسجيل المواقف الفارغة على حساب المضمون، لكنه أيضاً راجع إلى تصلب الموقف الأوروبي الذين لم تعد بلدانه تنظر إلى نفسها على أنها جزء من الدائنين المسؤولين عن تمويل الاقتصاد اليوناني بعدما انتقل العبء إلى المؤسسات الأوروبية والدولية، ما يعني أن اليونان لم تنجح حتى في تأمين دعم الدول غير الرئيسية في الاتحاد الأوروبي مثل إسبانيا وإيرلندا وإيطاليا واليونان. غير أن الموقف المتصلب لأوروبا في التعامل مع المعضلة اليونانية يعكس أكثر من مجرد الرغبة في معاقبة السلوك اليوناني، بل يتعداه إلى حقيقة أخرى مفادها أن أوروبا اليوم أصبحت في وضع أفضل للتعامل مع تداعيات خروج اليونان من العملة الموحدة سواء كانت تلك التداعيات مالية، أو تقنية مقارنة بما كان عليه الوضع في 2010 و2012، بحيث اتخذ الاتحاد الأوروبي مجموعة من الإجراءات الاحترازية لمنع انتقال العدوى إلى دوله من خلال وضع ترتيبات تعزل الأعضاء الأكثر هشاشة من الاضطرابات الناشئة في إحدى الدول وضمان عدم انتقال الاختلالات الاقتصادية إلى عقر دارها، كما أن الأسواق صارت أكثر هدوءاً اليوم باحتواء مسألة مغادرة اليونان لليورو، هذا ناهيك على الخطوات التي اتخذتها الدول غير الرئيسية في الاتحاد الأوروبي لحماية نفسها، لا سيما بعد إعلان رئيس البنك المركزي الأوروبي، ماريو دراجي، استعداد «القيام بكل ما يلزم» لمنع الانهيار المالي لعدد من الاقتصادات الأوروبية. وفي ظل الواقع اليوناني المأزوم تنقسم الآراء بين المتفائلين الذين يضعون نسبة الوصول إلى حل في 45، وبين الواقعيين الذين يشيرون إلى احتمال 90 في المئة أن تخرج اليونان من اليورو، لكن من وجهة نظري أعتقد أن هناك نسبة 45 في المئة لاستمرار الوضع المتعثر الراهن على حاله، و10 في المئة احتمال التوصل إلى اتفاق ذي معنى، ثم 45 في المئة إمكانية الخروج من العملة الموحدة، وفي جميع الأحوال ليس من الضروري أن تتخذ الأمور هذا المسار إذا ما تبنى الطرفان نظرة بعيدة المدى واتخذا الخطوات اللازمة لبناء الثقة المفقودة حتى الآن. رئيس مجلس التنمية العالمية التابع للرئيس أوباما ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»