«السراب» كتاب معرفي موسوعي، للدكتور جمال سند السويدي، يقدم رؤية علمية معمقة وشاملة، لكل «الجماعات الدينية السياسية» -السنية- تاريخ نشأتها، وتطورها، وممارساتها، وأهدافها، والعوامل التي ساعدت على انتشارها ووصول بعض تياراتها إلى الحكم ومن ثم أسباب إخفاقها وتراجعها. صدر الكتاب في طبعتين في عام واحد، مع ملخص له، وكتيب بأهم إضاءاته، واستوحى المؤلف اسم «السراب» لكتابه من القرآن الكريم، للدلالة على تشابه حالة الظمآن الذي يظن «السراب» ماءً، بحالة الملايين، الذين ظنوا أن الإسلاميين، يملكون حلولاً دينية لمشكلات مجتمعاتنا المعاصرة، ما يجمع الحالتين «الظن الخادع» و«خيبة الأمل». والكتاب سِفر ضخم في 815 صفحة، وقراءته واستيعاب قضاياه وأهدافه ليست بالعمل السهل، ويحتاج إلى تمعن وتفكر، ولكني خرجت بعد قراءتي له بانطباعات عديدة أبرزها: أولاً: الكتاب وإن كان معنياً، كأطروحة مركزية، حول فكرة السراب السياسي الذي يترتب على الوهم الذي تسوّقه هذه الجماعات لشعوب العالمين العربي والإسلامي، في حين تستغل الدين الحنيف لمصالح سياسية أو شخصية -كما يقول المؤلف- إلا أني أراه أبعد وأشمل من هذا الهدف، أراه وصفة علاجية شاملة وعميقة، للنهوض بالأمة وبرنامج إصلاح ديني وسياسي وثقافي. ثانياً: أرى كمتخصص في حقول الدراسات، وبخاصة في مجال السياسة الشرعية، أن الكتاب يقدم رؤية بصيرة وناضجة لتعاليم الإسلام وقيمه وهديْه في مجال إصلاح المجتمع والدولة والفرد، كما أنه خير دفاع عن الإسلام وحمايته من ملوثات السياسة، حين يستعرض التجربة الأوروبية في صراعها مع الكنيسة في القرون الوسطى، وكيف انتهى إلى سحب الدين من الحياة، فيحذر من عواقب توظيف الدين لخدمة الأغراض السياسية والمالية والشخصية، على الدين نفسه، فالتجارة في الدين، لا يقتصر ضررها على التاجر فحسب، بل يتعداه إلى الدين نفسه. ثالثاً: من أهداف الكتاب، تحصين المجتمعات العربية من أوهام «السراب السياسي» ويستخلص من إخفاقات تجارب هذه الجماعات في السلطة، أنه لا حلول دينية للمشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وأن على مجتمعاتنا أن تدرك - بعد تجربة الإسلاميين- أن شعار «الإسلام هو الحل» ليس حلاً سحرياً لمشكلاتها، بل هو حل أشبه بالسراب، لا توجد إلا «الحلول العلمية» لهذه المشكلات، شرقاً أو غرباً. ومع ذلك يرى المؤلف، أن للدين -دائماً- دوراً رئيسياً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، والروحية للأفراد، وأنه يمثل قوة فاعلة في الحفاظ على الأوضاع القائمة، بفضل تفسيره الوسطي المعتدل والمجسد في التيار الإسلامي الرئيسي، وأن الدين، في حد ذاته، لا يعوق التحديث، بل يعوقه من يفسرون تعاليمه بطريقة خاطئة. رابعاً: يؤكد الكتاب، على أن الإسلام هو الشكل الأهم للهوية والتماسك الاجتماعي في العالمين العربي والإسلامي، فالتقاليد والقيم الدينية تمارس على نطاق واسع، بدءاً بالأسرة في تعليم أطفالها، الصلاة والأخلاقيات، والحلال والحرام، مروراً بالمدارس والجامعات التي تقوم بدور رئيسي في تعليم قيم ومبادئ الإسلام، وصولاً إلى المؤسسات الدينية والمصارف الإسلامية والمنظمات ذات المرجعية الإسلامية. كما يؤكد المؤلف -في وجه مزاعم هذه الجماعات التي تشكك في إسلامية مجتمعاتنا ودولنا وأنظمتنا، بهدف إثارة الجماهير والتكسب السياسي، أن مجتمعاتنا ودولنا متمسكة بإسلامها الذي عرفته على امتداد 14 قرناً: عقيدة وعبادة وتعاملاً وقيماً وأنظمة وعلاقات، فإسلامية دولنا وشرعية أنظمتنا، يجب أن تكون بمنأى عن التشكيك والتضليل. خامساً: من أهداف الكتاب الكبرى: حماية مستقبل أجيالنا من أوهام «إعادة الخلافة»، التي تسوّقها الجماعات الدينية بهدف تجنيد الشباب لمشاريعها الخيالية، ويرى المؤلف أن هذه المشاريع غارقة في الماضي، لا تأخذ في الاعتبار تطورات الزمن، ولا متغيرات العصر وروحه ومتطلباته. سادساً: يسعى المؤلف إلى تعزيز جهود الدعوة إلى الإصلاح الديني، فيستعرض جهود أئمة الإصلاح الديني منذ بدايات القرن الماضي: الأفغاني وعبده وقاسم أمين، ورفاعة الطهطاوي، مؤكداً أن الدين هو صانع الحضارة، وأن صلاح الدين في الإصلاح القيمي والأخلاقي، ثم يتساءل: ما أسباب مجافاة الواقع للدعوات الإسلامية؟ ويمضي مدافعاً عن الدين ضد من يرونه معوقاً، مؤكداً أن الدين الذي دعا إلى العلم وإعمال العقل وأثاب على الاجتهاد -خطأ أو صواباً- لا يمكن أن يكون معوقاً، ولكن الجمود واستنساخ الماضي لدى هذه الجماعات، هما المعوقان الحقيقيان أمام الدعوات الإصلاحية. سابعاً: ختاماً، أرى أن معالجة المؤلف لقضية «فصل الدين عن السلطة» أو الدولة، من أعمق وأشمل المعالجات لهذه القضية الشائكة والحساسة.. ويؤكد المؤلف أن فصل الدين عن الدولة، لا يعني فصله عن المجتمع، فهو راسخ فيه: عادات وتقاليد وتاريخ، كما أن «خصخصة الدين» طبقاً للعالم الغربي، لا تنطبق على بقية العالم ولا على الثقافتين العربية والإسلامية، لأن الإسلام جزء لا يتجزأ من الحياة بالنسبة للمسلمين، ولذلك يرى أنه من الصعب تحقيق هذا الفصل بالرغم أن الاستمرار في الخلط بين الدين والسياسة، أضر بالدين وعرضه للتلوث السياسي، ولذلك ينتهي إلى أن الإشكالية ليست في الارتباط أو الانفصال، وإنما الإشكالية الخطرة هي في «توظيف الدين لخدمة السياسة». وفي النهاية، يبقى أن أقترح على مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، تكليف فريق بحثي لدراسة الكتاب دراسة تفصيلية وتسليط الأضواء على مباحثه وقضاياه، بهدف تحقيق الأهداف والغايات المنشودة في رفع وعي الجماهير والتحصين الثقافي والمعرفي. وأود دعوة القارئ الكريم وبخاصة طلاب وطالبات الجامعات إلى الإطلاع على هذا الكتاب واتخاذه مرجعاً مهماً لبحوثهم ودراساتهم.