كثيرون هم من يسألون عن طبيعة الاستثناء المغربي، وكيف أن البلد استطاع أن يصل في خضم الخريف العربي إلى بر الأمان، والجواب أن هناك معادلتين أساسيتين في المجال السياسي التاريخي المغربي: طبيعة المذهب الديني المغربي، وانفتاح الملكية الدائم. وفي تاريخ المغرب، يحكى أنه كان قد ورد عن بعض آل البيت الوافدين من كربلاء زمن يوسف بن يعقوب المريني، أنه قال لأصحابه: «ارجعوا فقد أزرى بنا الغلط، وليس هذا الوقت وقتنا». كما ظهر «التويزري» على عهد يوسف بن يعقوب المريني في المئة الثامنة، مدعياً أنه المهدي المنتظر، فكان مآله القتل في سوس. وفي القرن نفسه خرج العباس الفاطمي في غمارة، وتسنى له أن يدخل فاساً قبل أن يقتل. ومعروف في التاريخ ما وقع للعكاكزة، وما كان لعلماء الفترة من فتاوى في اتهامهم بالردة والزندقة، وهم الذين ظلوا على بعض مبادئ مذهب ابن تومرت. وقد استمرت مثل هذه الدعاوى تبرز حتى عهد قريب، على نحو دعوى البهائيين الذين ظهروا في بعض مدن الشمال المغربي أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، ووقعت محاكمتهم والقضاء عليهم. وما ذلك إلا لأن المذهب المالكي الوسطي المعتدل كان قد ترسخ واستقر، وغدا رمزاً أو أحد الرموز الكبرى لوحدة الوطن، جامعاً بين شماله وجنوبه، في تأكيد واستمرار لما كان قد تم منذ عهد المرابطين الذين وفدوا من الصحراء، وتمكنوا من نشر المذهب في كل الغرب الإفريقي وما كان في أقطاره من ممالك. وهي حقيقة اعتمدتها محكمة العدل الدولية في لاهاي، حين وضعت السؤال حول وحدة المذهب الديني بين المغرب وصحرائه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الملكية في المغرب اضطلعت بدور تاريخي كبير في صنع وتجذير مبدأ التضامن الديني والمدني للاجتماع الإنساني والسياسي المغربي، حيث منح السلطة فيه مضموناً على درجة من الحداثة عميقة، وجعل السلطة سلطة عمومية معروضة للتداول تمتنع على الاحتكار والاستئثار تحت أي ظرف من الظروف.. فالمغرب هو الدولة المغاربية الوحيدة التي منعت منذ استقلالها نظام الحزب الواحد، ولم ينتمِ عاهل البلاد إلى أي حزب سياسي؛ لأن ذلك كان سيخالف محددات الشرعية القائمة في هذا البلد والمبنية على رباط تاريخي بين العاهل والشعب يعبر عنه في احتفال البيعة الذي تقيمه الأمة/ الجماعة بكل مكوناتها إضافة إلى سلالته الشريفة. وهذان العاملان يعطيان لملك المغرب شرعية تاريخانية ومؤسساتية دينية تنزهه عن الصراعات والتحزبات التي يمكن أن تعرفها الأمة/ الجماعة، ومثل هذه الشرعية كانت غائبة في تونس والجزائر عند الاستقلال، فاستندت شرعية النظام إلى الحزب الحاكم (تونس) أو إلى الجيش (الجزائر). ولهذا نفهم طبيعة الاستثناء المغربي في المخاض السياسي الكبير الذي عرفته مناطق مغاربية وعربية مجاورة، فالملكية كانت ولا تزال قوة متكيفة ومنفتحة وقادرة على دفع منظومة «التعاقد» و«المواطنة» و«الإجماع» إلى الأمام دون أي تهييج ولا تثوير مجتمعي وكيفما كانت نوعية الفاعلين السياسيين المتواجدين داخل حلبة الصراع السياسي. فحزب العدالة والتنمية في نظري رغم إيديولوجيته الإسلامية التي عليها أنشئ، ومنذ توليه رئاسة الحكومة منذ سنوات على إثر انتخابات نزيهة، أضحى حزباً محافظاً أكثر منه إسلاموياً.. فلم تتغير أمور الدين في المغرب، ولا أخذت قرارات لا مدنية، فهذه أمور لا يمكن أن تستقيم في مجتمع ذي مجال سياسي عام وله ثوابته الدينية حيث إمارة المومنين ووحدة المذهب المالكي الوسطي المعتدل. وأظن أن على ذلك الحزب أن يتوفر على الشجاعة الكافية والذكاء الإيديولوجي والفكر الضروريين في القرن الحادي والعشرين لتغيير «منطقه الإيديولوجي» انطلاقاً من قاعدة خطورة الزج بالدين في السياسة والسياسة في الدين.. وهذه هي القاعدة الديمقراطية في العمل السياسي حتى لا يميل أي فاعل سياسي في المدى المتوسط والبعيد إلى قواعده الخلفية العميقة لاستنفارها واستنهاضها ضد أي كان، فآنذاك ستستبطن كل الأحزاب السياسية فكرة الدولة وتوطنها في نسيجها الثقافي والنفسي.