يسود انطباع واسع لدى النخب العربية أن مسار الانفتاح السياسي الذي انجر عن الانتفاضات الثورية، التي عرفها العالم العربي مؤخراً قد أفضى إلى تمزيق النسيج الداخلي للبلدان العربية، التي شهدت صدمة التحول، بحيث انهار كيان الدولة وتحولت التعددية السياسية إلى فوضى عامة وفتنة أهلية طاحنة. الإشكال الكبير الذي يتولد عن هذه الملاحظة هو هل يجب أن نستنتج أن النموذج الديمقراطي التعددي لا يتناسب مع خصوصيات المجتمع العربي، إما لأسباب مجتمعية تتعلق بالتركيبة المجتمعية (البنيات العصبية الأبوية)، أو النسق الديني (المعادلة الطائفية وحضور المؤسسة الدينية)، أو بنقص في المستوى التنموي والاقتصادي. ليس السؤال ذاته بالجديد، بل هو مألوف في الأدبيات السياسية العربية، وإنما الجديد هو علاقته بمحاولات الانفتاح الديمقراطي المتعثرة التي عرفتها البلدان العربية في السنوات الثلاث الأخيرة. بعض الباحثين ذهب في تفسير الظاهرة إلى أن السبب الحقيقي لإخفاق ديناميكية التحول السياسي راجع إلى انفصام مسار التعددية الحزبية والانتخابية عن الحركية الليبرالية فكراً وأيديولوجيا، بمعنى أن مسار التحول لم يواكبه تشبع بالمثل الليبرالية، التي هي الوعاء النظري للديمقراطية التعددية، وهي الأرضيّة الضرورية لقيام نظام سياسي مستقر يكرس الحريات العامة، ومن دونها تتحول الآلية الإجرائية للمنافسة الانتخابية إلى أداة لوصول القوى غير الديمقراطية للسلطة. يتعلق الأمر في الواقع بجانب من المأزق، لكن الجانب الآخر يحيل إلى طبيعة الخيار الليبرالي نفسه من حيث قدرته على التأقلم مع حال المجتمعات العربية، باعتبار أن مفهوم الليبرالية يحيل في الواقع إلى اتجاهات إشكالية غير محسومة، نقف باقتضاب عند مستويين، منها: نمط تصور الذات المواطنة ومفهوم الخير العمومي. أما مفهوم المواطن، فيكتسي في الفكر الليبرالي الكلاسيكي صورة الذات الفردية المكتفية بنفسها التي تمارس إرادتها الحرة في الاختيار خارج عبء التواضعات والهويات الجماعية. إنها ذات مجردة «غير متعينة» ليست أكثر من وعي منعزل مغلق على نفسه، ومن هنا النقد الذي وجه منذ عصر التنوير لهذا التصور الفردي للمواطنة (لدى روسو مثلاً )، ليصل النقد مداه في أدبيات المدرسة «المجموعاتية» communautarian المعاصرة، التي نبهت إلى وهم انفصال الذات عن سياقها الثقافي والمجتمعي، أي عن الهوية الأخلاقية العامة، التي هي جزء منها. أما مفهوم الخير العمومي، فقد تم اختزاله في الفكر الليبرالي الكلاسيكي إلى تصور إجرائي للعدل من منطلق حياد الدولة الضروري إزاء كل التصورات الجوهرية للخير (التي تتمحور حول التقليد الديني). العدل هنا يأخذ مفهوماً توزيعياً صرفاً يتلخص في قيمة المساواة المجردة، التي تقوم مقام الفضائل المدنية، وفي مقدمتها فضيلة التضامن التي تخرج من دلالتها العضوية إلى دلالة التعاقد القانوني الحر. الإشكال الأول ينعكس في السياق العربي في هشاشة «الذاتية الفردية»، التي ليست هي بالضرورة التصور الوحيد المتاح للمواطنة، بل لعلها من خصوصيات وآثار السردية الغربية، ولها تركة تمتد للموروث القانوني الروماني واللاهوت المسيحي (كما بينت أبحاث جورجيو أجامبن، وتوني نغري وروبرتو سبوزيتو). وقد أظهرت تجارب التحول الديمقراطي الناجعة في العديد من السياقات الأخرى تلاؤم التعددية السياسية مع مفهوم المواطنة المندمجة، أي المنتمية لهويات قيمية جماعية. ولا شك أن الهندسة الديمقراطية البديلة في المجتمعات العربية تحتاج إلى استيعاب هذا المفهوم وضبطه وتقنينه في النصوص الدستورية والمؤسسية، بدل الاكتفاء بنموذج التمثيل الفردي المجرد. أما الإشكال الثاني، فيحيل إلى موضوع المسألة الدينية - السياسية المعقد، أي مدى إمكانية قيام ديمقراطية غير ملائكية تمنح الدين مكانة محورية في النظام السياسي، وتتبناه تصوراً عاماً للخير العمومي بما يعني انتهاك مبدأ حياد الدولة، إزاء شتى المنظومات العقدية والفكرية المتعددة. ومع أن النظم العلمانية (التي تختلف اختلافاً واسعاً في التصور والممارسة)، تشكلت أساساً لحماية التعددية والحريات الفردية، إلا أنها قامت على فصل تعسفي بين الوعي الفردي الذاتي، (الذي هو موطن معتقداته الجوهرية) ووعيه العمومي المختزل في القوانين الإجرائية المنظمة للمجال المشترك. وفضلاً عن كون القيم العمومية المشتركة هي في حقيقتها معتقدات دينية ولاهوتية معلمنة، فإن القوانين الإجرائية لا يمكن أن تنفصل عن المعين الأخلاقي والأيديولوجي الذي يتجاوزها. ومن هنا، فإن البناء الديمقراطي المنشود عربياً، لا يمكن أن يقصي الدين من الشأن العمومي باعتباره الدعامة القيمية والأخلاقية للهوية الجماعية، وإنْ كان من الضروري الحيلولة دون تحويله إلى عنصر تأزيم واحتقان - كما هو الحال اليوم- من خلال توظيفه الأيديولوجي في حلبة الصراع السياسي بما ينتج عنه تدنيسه، وبالتالي قيام نمط من العلمنة المشوهة بمسوح دينية عنيفة.