في شمال العراق، وبالتحديد على الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم «داعش» تدور معارك طاحنة وعمليات كر وفر يثبت من خلالها «داعش» بأنه أكثر من مجرد تنظيم إرهابي، وفيما يبدو فإن الاستراتيجية التي تنتهجها منظومة الدولة المنضوية تحت مظلة الحرب ضد «داعش» تعكس عدم تحديد واضح لطبيعة هذا التنظيم من زاوية كونه تنظيماً إرهابياً أم هو تنظيم رجال حرب عصابات، بمعنى أنه ليس هناك تحديد دقيق لأهداف وتطلعات هذا التنظيم، وماهيته الحقيقية والأطراف الدولية التي تدعمه من داخل المنطقة وخارجها. وعدم الفهم والدقة هذه تشكل أموراً خطيرة، لأنه تتولد عنها مسارات ووسائل واستراتيجيات خاطئة في محاربة هذا التنظيم، وحتى الآن أمر «داعش» كتنظيم ارتكب العديد من المجازر والفظائع البشعة ضد الإنسانية محيرٌ جداً. وعند النظر إليه بعمق من الداخل ينشأ لدى المراقب سؤال صعب عند الرغبة في تصنيفه من حيث كونه تنظيماً إرهابياً صرفاً أم منظمة رجال حرب عصابات، فهو في نشأته الأولى قام لمحاربة النظام الحاكم في سوريا، كما يدّعي لنفسه، وتأسس على الأراضي السورية، لكن الممارسات الفظيعة التي ارتكبها منذ اجتياحه الأراضي العراقية الشمالية من قبيل قطع رؤوس الأبرياء، وإعدامهم بسبب هوياتهم ومنشأهم العرقي والإثني والديني والطائفي، وسبي النساء وبيعهن يثبت دون شك بأنه تنظيم إرهابي حتى النخاع، لكن النشاطات الأخرى التي يمارسها حالياً تذهب بعيداً إلى ما وراء هذا التصنيف الضيق. وعلى ضوء ذلك، فإن «داعش» يمكن وصفه بأنه منظمة عنفية تقوم باستغلال الدين سياسياً وفكرياً، وتغوي الناشئة على أساس من أنه تنظيم يمارس حرب عصابات عالمية تهدف إلى إقامة الدولة الإسلامية المزعومة، وإلى الوصول إلى السلطة في العالمين العربي والإسلامي، أي الدعوة إلى دمار النظم الاجتماعية والسياسية القائمة مستخدماً في ذلك تكتيكات إرهابية في منتهى الخطورة. المعايير المستخدمة حتى الآن في محاربة «داعش» تختلف عن المعايير التي من المفترض أن تستخدم في محاربة رجال حرب العصابات، فهناك فرق شاسع بين حرب العصابات والحرب على الإرهاب، فحرب العصابات عادة ما يقوم أصحابها بالاستيلاء على الأراضي لإقامة قواعد عسكرية ونطاق انطلاق لعمليات حربية محددة تقوم على مبدأ «اضرب وأهرب»، وربما إقامة كيان إقليمي محدد. وفي سياق ذلك، يحصل رجال حرب العصابات على قدر من التأييد الخارجي للحصول على التمويل والسلاح وتدريب الكوادر والدعم والتأييد الشعبي الداخلي في صور من السماح للكوادر بالاختباء في وسط الجماهير. إن حرب العصابات تختلف في طبيعتها ونطاقها عن العمليات الإرهابية التي يتم من خلالها القيام باغتيال الأفراد أو تفجير الأشخاص لأنفسهم بأحزمة ناسفة أو بزرع قنابل موقوته أوسيارات مفخخة، والتي عادة ما يكون لها تأييد ضعيف في المجتمعات. لذلك ،فإن فهماً حقيقياً لطبيعة «داعش» أمر مطلوب بإلحاح من زاوية هل هو تنظيم إرهابي مجرد، أم منظمة رجال حرب عصابات، أم فلول جيش نظامي سابق تم تجميعها في صور جديدة. إن من يستطيع الإجابة بدقة عن هذه الألغاز سيتمكن من شن حرب ناجحة ضد «داعش» وهزيمته والقضاء عليه. ونضيف إلى ذلك بأن هزيمة رجال حرب العصابات بالقصف الجوي المجرد غير ممكنة، والاعتراف بطبيعة «داعش» الحقيقية ومعرفة من يدعمه أمور ضرورية لوضع الاستراتيجيات والخطط الأكثر ملاءمة ونجاعة لهزيمته، فالحرب يجب أن تدور على الأرض لأن «داعش» يحتلها، ومن أراد أن يقضي عليه يجب أن يواجهه بشكل مباشر، هكذا يقول المنطق. د. عبدالله جمعة الحاج