التدين لدى الشعوب التاريخية فيما يسمى حالياً بدول القارات الثلاث، أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، هو مصدر قيمها، ومنبع فكرها، وأصل تراثها، وموجّه سلوكها، تلجأ إليه ساعة الشدة، وتتجه نحوه في اللحظات الحاسمة من تاريخها. وهو أيضاً عامل في تقدمها أو تأخرها طبقاً للوظيفة التي يؤديها فيها، وطبقاً لاستعمال مختلف الطبقات الاجتماعية له. لقد دخل شعب مصر في الإسلام لأنه رأى فيه تحريراً له من تسلط الرومان واحتلال الأجنبي. ثم ارتبط الإسلام بتاريخها وحياتها وقُوت يومها وعاداتها وتقاليدها. ومنذ بداية النهضة الحديثة في مصر منذ محمد علي كان الدين مصدر التيارات الثلاثة الرئيسية فيها: الأول، التجديد الديني الذي بدأه الأفغاني، حيث كان الدين محفزاً ضد الاستعمار الخارجي والتراجع الداخلي في مظاهره المختلفة من فقر وتخلف تنموي وفتور. والثاني، التيار العلماني العلمي الذي بدأه شبلي شميل لولا أنه ظن العلم والعقل والحرية والمدنية والعمران والتقدم ضد الدين، بينما هي من صلب مقاصد الدين. والثالث، التيار الليبرالي لتأسيس الدولة الحديثة الذي بدأه الطهطاوي، حيث ظهر الدين دعامة للدولة الوطنية الحديثة بما فيها من زراعة وصناعة، وبما تقوم عليه من حرية وتعليم ونهضة عمرانية شاملة. وبعد أن تجمعت الدول الأوروبية كلها لضرب مصر في شخص محمد علي حتى لا يقوم في هذه المنطقة أي كيان سياسي واقتصادي مستقل عن الشرق والغرب على السواء، وحتى لا ينهض الشرق من جديد في مواجهة الغرب بعد أن تحدُث للغرب في تاريخه الحديث السيطرة على مقدرات العالم وثرواته ومركز قيادته في الشرق، وبعد أن عجز السلطان في تركيا عن الدفاع عن الأمة الإسلامية، بدأت مغامرات الغرب على مصر منذ افتتاح قناة السويس وإرهاقها بالديون في عصر إسماعيل، ثم فرض الرقابة المالية وتدخل الأجانب وقناصل الدول، ثم خلع إسماعيل وتنصيب ابنه توفيق تمهيداً لاحتلال مصر كلها سواء وفت بديونها أم لم تفِ بها، سواء حمت الأجانب أم لم تحمهم، فاحتلال مصر مقرر في كلتا الحالتين، وسواء عكر الحمل على الذئب الماء أم لم يعكر فالذئب آكله لا محالة. وفي هذه الفترة بعد انكسار مصر وبداية وقوعها تحت سيطرة الدول الكبرى في عصر إسماعيل، ثم في عهد ابنه توفيق، بدأت مقدمات الثورة العرابية. وظهر الدين في وظيفتيه الأساسيتين: دين المقاومة ودين الاستسلام، دين التحرر ودين عدم التحرر. كان دين التحرر من الاستعمار هو الدين الذي فهمه عرابي وصحبه، وزعماء الثورة العرابية السبعة وبعض علماء الأزهر. ولما أراد المتحاملون تشويه دين التحرر اتهم عرابي وصحبه بالدروشة، وأنهم قاموا ليلة معركة «التل الكبير» بالذكر حتى الصباح، فأصبح الجند متعبين، فلم يستطيعوا مقاومة الإنجليز أهل اليقظة والدراية، وأصحاب العلم والمعرفة دون ذكر لخيانة علي يوسف الشهير بخنفس وإعطائه خطة جيش مصر الوطني بخط يد عرابي إلى جيوش الاحتلال. وإذا صح أن عرابي قد استدعى عدداً من رجال الطرق الصوفية أو أنهم هم الذين جاؤوا إليه فأرسلهم إلى الفرق يستحثونها ويستنهضون هممها حماسة للدين والوطن، أو أنه قرأ الأدعية مع بعض رجال الدين في خيمته، فإن ذلك لا يعني أنه ترك التخطيط دون أن يعد العدة لذلك ويأخذ بالأسباب. فالتدين يعطي الجند روحهم ويشحذ هممهم ويقوي روحهم المعنوية بالأغاني والأناشيد الوطنية والموسيقى العسكرية. وقد أقيمت للحملة الإنجليزية أيضاً الصلوات في كنائس إنجلترا وباركها كبير الأساقفة مع عدد من رجال الدين، ولم يتهمها أحد بالدروشة. إن الهدف من هذا المقال هو دحض هذه الفرية التي تجعل من عرابي درويشاً جاهلاً بالدين عاصياً للخليفة خارجاً على الشريعة، وأن دروشته سبب هزيمته أمام جيوش الاحتلال، وبيان أن التدين الوسطي كان منبع الثورة العرابية ومنطلقها وأن التحرر من الاستعمار كان غاية تحركه وهدفه النهائي. ------------ أستاذ الفلسفة - جامعة القاهرة