هل يمكننا التعامل قليلاً مع أميركا بعيداً عن حديث الكيل بمكيالين ومواقفها الأخيرة من جميع الأحداث الساخنة في المنطقة، حتى يمكن أن نكتب عنها شيئاً عن طريق الحرب الباردة لكي نستطيع فقط الاستفادة من أميركا الحضارة وليس السياسة. طوال فترة الانتخابات الأميركية التي سبقت ترشيح أوباما للرئاسة كان الموضوع الرئيسي للحوارات والنقاشات يتركز حول لونه الأسود واسم والده حسين المسلم، وظن البعض أن أميركا التي خاضت حرباً أهلية طاحنة ضد السود لا تقبل بتسيد رجل أسود دفة الحكم مهما كان الوضع حتى وإن كان أوباما إنساناً ملَاكاً فمن عاشر المستحيلات، إلا أن الواقع الأميركي هو الذي قدم الفوز لهذا الأسود لدورتين انتخابيتين. والآن جاء دور وزيرة خارجية أوباما السابقة هيلاري كلينتون لتعلن رسمياً ترشحها عن الحزب الديمقراطي، وقد تطلعتْ لذلك ليس بالأمس القريب فحسب، بل أيضاً عبر كتابها القيم قبل أقل من عام عند الحديث عن «الخيارات الصعبة» التي تتحقق دائماً في قارة أميركا الشمالية على وجه التحديد، ومن يشك في ذلك فليقلب صفحات التاريخ الأميركي منذ أكثر من قرنين وإلى الآن، لكي يجد كافة الصعاب قد ذللت بالطريقة الأميركية الفريدة. جاء الآن الدور على كلينتون الزوجة وليس الزوج الذي قبل أن يكون مديراً لحملة انتخاباتها وهي التي عانت منه الأمرّين في أزمة «مونيكا» الشهيرة، إلا أنه خرج منها كما تخرج الشعرة من العجين ونال الفوز بدورة ثانية لرئاسة أميركا من جديد. فإن كلينتون، هيلاري أو بيل، كل منهما مارس الحكم منذ نعومة أظفاره، فهيلاري هي العضو المخضرم في الكونجرس عن ولاية نيويورك منذ عقود، ونالت شرف تولي أهم وزارة في أميركا ألا وهي الخارجية التي كانت مضرباً للأمثال في إدارتها لدورة واحدة الملف الذي اختلف عنه الخلف كيري في التفاصيل وليس الخطوط العامة للسياسة الخارجية الأميركية. ولمن لا يعرف الدقة في تقييم الأوضاع الأميركية، فلابد من التركيز على دور كلينتون في احتواء الصين العملاق الذي حصل على المرتبة الثانية اقتصادياً بعد أن أزاحت اليابان عن هذه المكانة التي كانت تشغلها لسنوات وذلك بفضل الدولار الأميركي الأخضر وليس «اليوان» الصيني الذي أصبح أداة للمساومات الاقتصادية الحادة بدل أن تكون المعينة على تقوية الاقتصاد العالمي. فقبل تنحيها عن عرش الخارجية الأميركية زارت هيلاري الصين على وجه الخصوص لإيصال رسالة قوية إلى النظام هناك، حيث حثت الصين على شراء المزيد من الديون وقالت عبارتها المشهورة للصينيين بالاقتصاد أولاً والسياسة لاحقاً: «إننا حقاً سنصعد معاً أو نسقط معاً». فرجعت من هناك إلى أميركا لكي ترسي دعائم السلم بين البلدين بدل طرْق طبول الحرب حتى على مستوى التصريحات الإعلامية، إلى أن جاء كيسنجر مهندس السياسة الخارجية الأميركية في عهد نيكسون، أي قبل أكثر من ثلاثة عقود من الآن لكي يكتب مقالاً مطولاً يذكر فيه أميركا والعالم بأن سياسة نيكسون مع الصين هي التي يجب مواصلتها أيام كلينتون وأوباما ومن يأتي بعد ذلك، فبيل كلينتون هو من قام بتصدير الاقتصاد إلى الصين عبر مصانع الكوكاكولا ومطاعم الوجبات السريعة بدل مصانع الأسلحة ومعداتها الحربية، وهيلاري من حيث المبدأ قادرة على الوصول إلى الحكم ليس لأنها امرأة، بل لأن لديها من المؤهلات ما لا يملكه حتى الآن مرشحو الحزب الجمهوري.