قد يبدو مهرجان السينما الأفريقية في مدينة الأقصر بصعيد مصر، حدثاً غير ذي طابع «عالمي» على نحو ما تجرى به معظم مسميات الأحداث الفنية في هذه الفترة، رغم أنه يحمل اسم المهرجان «الدولي» للسينما الأفريقية بالأقصر، وقد تبدو صلته بقضية التنمية قاصرة على تنمية السياحة في إحدى مدن مصر الجنوبية، أو بتنمية سمعة مصر الأفريقية، في وقت تشتد فيه مختلف المحاولات في هذا الاتجاه، ورغم ذلك فإن التفسير على هذا النحو وحده لا يصيب جوهر حقيقة دور السينما العربية والأفريقية في التنمية الثقافية والاقتصادية على السواء. لقد استفقت فجأة على حقائق عن عالم السينما في أفريقيا مثلاً – وهي ليست قريبة من تخصصي بالتأكيد – بسبب الأرقام التي رحت اسمعها عن بلد مثل نيجيريا، لا نسمع منها إلا أخبار «بوكو حرام» والصراع القبلي، والجهوي ..إلخ..وإذ بهذا البلد السعيد ينتج بين 1500-2000 فيلم قصير وطويل سنوياً، ويصبح «هوليوود» أفريقيا، وأن الأموال التي تدور في هذا الحقل تزيد على المليار دولار سنوياً، وإذ به – في النهاية – يحتل المركز الثاني في الانتاج عالمياً، سابقاً بلدا منافسا قوىا مثل الهند، التي هي «بوليوود» آسيا! فأي تنمية تلك في نيجيريا التي جعلتها في هذا الوضع؟ ولذا لم أدهش لأول دراسة جادة وجدتها عن نيجيريا في عالم السينما يشير عنوانها إلى «الإنتاج السينمائي الأقوى، وصناعة السينما الأضعف» ! وليس هنا مجال معالجة المسائل الفنية لعالم السينما الأفريقية، ولكننا هنا بصدد معالجة الفروق المألوفة بين «النمو»، و«التنمية». وأنه ليس مصادفة أننا لا نسمع عن ثقافة سينما حقيقية في نيجيريا، ولا قطاع الإنشاءات لدور السينما، ولا مهرجانات دورية للسينما في نيجيريا. ومن هنا غلبت بسهولة أخبار الإرهاب والصراع السياسي القبلي والجهوي ...الخ. مقابل ذلك تسمع الكثير وبحفاوة كبيرة عن مهرجان «واجادوجو» عاصمة «بوركينا فاسو» في شهرة عنوانه «الفيسباكو» للسينما الأفريقية، والذي جعل من بلد صغير مغلق الحدود، فقير الإمكانات بهذه الشهرة العالمية، واقفاً منذ عام 1969 أمام قرطاج والقاهرة وغيرهما وباعثاً لروح ثقافية أفريقية جامعة، خاصة منذ أعطى له زعيم تلك البلاد الشاب «توماس سنكارا» نفس التحرر والتقدمية لبضع سنوات في الثمانينيات، فأمم دور السينما لتكون ساحة شعبية دائمة للثقافة عن طريق السينما وبمسؤولية حكومية مؤكدة، وأداة لتعليم وسائل الزراعة والصناعات الصغيرة والإنتاج الفني، بما أعطى البلاد مكانة جعل العالم كله معها في ثورتها الأخيرة لاسترجاع ما سمي «مجد الثمانينيات» لأسباب كثيرة، لكن غلب منها شهرتها في عالم السينما، التي لم تحققها بلاد المليارات نيجيريا. في هذه الأجواء برز مهرجان «الأقصر» للسينما الذي عقد دورته الرابعة في النصف الثاني من مارس 2015 وبجهد جبار لجمعية أهلية من «شباب الفنانين المستقلين»، عارضاً أكثر من مائة فيلم ، بتمثيل لحوالى أربعين دولة، ومبدعا في وسائل نهوضه من تدريب الشباب على صناعة الأفلام القصيرة إلى ندوات الحوار الفكري إلى مجال المناقشات الموسعة عن كل فيلم عقب عرضه، إلى حضور نجوم صناعة السينما الأفريقية من شرقي وغربي القارة مخرجين وفنانين مقيمين في مختلف فنادق المدينة الصغيرة، وفي أكثر من دورة حضرتها، أرى فنانين مدركين للقضايا الملحة في القارة منذ عرضوا في عام سابق عن أزمة المياه في حوض النيل إلى عرضهم هذا العام عن الإرهاب في الصحراء الكبرى فيلم «تمبوكتو» الشهير، أو الفيلم التونسي الهادئ «الوردة» حول نفس المحور. ولعبت أفلام أخرى أدواراً اجتماعية مختلفة منها «الرواندي» عن التسامح بعد المذابح، أو السوداني، عن مشاعر الوحدة بعد انفصال الجنوب، في فيلم جذاب عن فريق كرة قدم جنوبي «ملكية – جوبا» جاذباً للشماليين والجنوبيين على السواء. بهذه الأبعاد تقترب السينما من شعوبها، حين تستهدف معنى التنمية الثقافية بحق. وهذا المعنى هو الذي يثير التساؤل الكبير، حين تظل مهرجانات كبرى في القاهرة أو الاسكندرية أو دبي، مرتبطة فقط بأطراف العولمة في تقديم نجومها ومنتوجها الفني وإعلامها..وكأن من لم تسمعه هوليوود، فسيظل أطرش أو أعمى أبداً. الإبداع هو طريق التنمية الحقيقية، ومعركة التنمية الثقافية هي الأولى، ونحن نواجه معركة الإرهاب المحصن بالجهالة والتطرف غير الإنساني.