تصدرت وسائلَ الإعلام الفرنسية خلال الأيام الماضية زوبعة الخلاف العلني المحتدم الناشب بين الزعيم التاريخي لحزب «الجبهة الوطنية» اليميني المتطرف «جان ماري لوبن»، وابنته زعيمة الحزب الحالية مارين لوبن، وهو خلاف خرج بسرعة من دهاليز الحزب وأقبيته الخلفية ليأخذ طابع السجال، بل الجدال الفج العقيم، بين «لوبن» ووريثته السياسية، التي أعلنت بأكثر من طريقة عن وقوع قطيعة سياسية نهائية مع الأب، على رغم أنه ما زال يشغل صفة «الرئيس الشرفي» للحزب! بل إن الشد والجذب بين الطرفين وصل إلى حد إعلان مارين رفضها ترشيح والدها في الانتخابات الإقليمية. وبالنظر إلى الاهتمام المتعاظم الذي يحظى به هذا الحزب اليميني المتطرف، بعد النتائج القوية التي حققها مؤخراً في صناديق الاقتراع، وخروج صراع الأب وابنته عن كل ما هو مألوف، واستمرار طرفي النزاع في التصعيد دون التوقف عند سقف معقول، بات كثير من الخبراء المهتمين بشؤون اليمين الفرنسي يتساءلون عما إن كان هذا الصراع حقيقياً أم زائفاً، جدياً أم مفتعلاً لغاية في نفس مارين وأبيها الماكرين؟ وهل شقاق الأب في هذه الحالة مع الأب ينسي الفرنسيين، أنها أصلاً صورة سياسية طبق الأصل منه إيديولوجياً، وهو الذي صنعه أسطورتها من لا شيء. ولعل هذا ما تكشفه حياة مارين لوبن السيرة والمسيرة، التي سنتحول إليها هنا. ولدت «ماريون آن بيرين لوبن»، المعروفة باسم «مارين لوبن» في 5 أغسطس 1968 وكانت هي ثالثة ثلاث بنات لجان ماري لوبن من زوجته الأولى «بيرت لالان»، وقد انفصل أبواها في عام 1984 وعمرها 17 عاماً، واكتسى ذلك الحدث زخماً إعلامياً فضائحياً كان له أبلغ تأثير على نفسية ابن لوبن المراهقة حينها، وقد كانت تزاول دراستها في ثانوية «فلوران شميت» بمنطقة سان كلود الفرنسية. وبعد إتمام هذه المرحلة انخرطت في جامعة باريس الثانية، حيث درست القانون، وتخرجت بإجازة في سنة 1990 أتبعتها بالحصول على شهادة دراسات معمقة في القانون الجنائي في العام التالي. وطيلة سنوات دراستها الجامعية نشطت كقيادية في «الدائرة الوطنية لطلاب باريس» وهو الجناح الطلابي المحسوب على حركة «الجبهة الوطنية» اليمينية المتطرفة التي يتزعمها والدها. وفي سنة 1992 تحصلت «مارين لوبن» على شهادة تسمح لها بمزاولة مهنة المحاماة واعتُمدت محامية أمام محاكم منطقة باريس. وقد ظلت ترافع أمام محاكم العاصمة الفرنسية حتى عام 1998. وقد تزوجت بفرانك شوفروي، رجل الأعمال الذي كان يعمل لحساب «الجبهة الوطنية»، وأنجبت منه ثلاثة أطفال. وفي 1999 انفصلت عنه، وتزوجت من جديد مع «أريك إيريو» وهو أيضاً قيادي كبير سابق في «الجبهة»، ومستشار إقليمي لها في منطقة «كاليه» بأقصى الشمال الفرنسي. ولكنها انفصلت أيضاً عن هذا الزوج الثاني. ورفيقها الآن هو «لويس آليو»، نائب رئيس حزب الجبهة الوطنية، أو بعبارة أخرى هو نائب مارين لوبن نفسها في الحزب. ولعل هذه التفاصيل العائلية، بل الشخصية، تبدو مهمة لفهم بعض أبعاد استغراق مارين لوبن في عالم «الجبهة الوطنية»، التي تعني بالنسبة لها كل شيء، فهي حزب الأب المؤسس، والزوج السابق، والزوج الأسبق، والرفيق، وكل شيء في تقويم حياتها اليومية، والأسرية، ومن الألف إلى الياء. ولكن قبل الاستطراد كثيراً في هذا البعد، قد يكون من المفيد أيضاً الالتفات إلى مسار طريق «مارين» إلى الزعامة تحديداً، وهو مسار مديد من المهام الحزبية والسياسية، والقدرة على إثارة الجدل، وجذب اهتمام الإعلام، وإعادة استنساخ مقولات الأب اليمينية المثيرة، بل المزايدة عليها في أحيان كثيرة. وفي سياق قصة الصعود، سجلت مارين لوبن أول انضمام رسمي معلن لحزب والدها «الجبهة الوطنية» في عام 1986 عندما كان عمرها 18 سنة، وقد دفع بها الحزب مطلع التسعينيات كمرشحة مقترحة في الترتيب الثاني عن دائرة «كاليه» بالشمال، في الانتخابات الجهوية لسنة 1992، ولكنها تراجعت لتفرغها لشؤون المحاماة. ولكنها تقدمت لصناديق الاقتراع لأول مرة في الانتخابات التشريعية في العام التالي، وكان عمرها حينها 24 وقد باتت معروفة إلى حد ما، ولذلك دفع بها الحزب ضمن مترشحيه على مستوى العاصمة باريس، وقد حصلت في ذلك الاستحقاق على 11,10 من أصوات الناخبين، وحلت ثالثة. وفي عام 1998 حصلت على أول تفويض سياسي حين انتخبت مستشارة جهوية في منطقة كاليه بالشمال، وفي ذات العام تولت قيادة الجناح القانوني للجبهة، الذي ظلت على رأسه حتى 2003. وقبل ذلك منذ عام 2000 أصبحت عضوة في المكتب السياسي للحركة، وصارت أحد وجوهها القيادية. ومنذ ذلك العام أيضاً تولت قيادة اتحادية «جيل لوبن» التي أسسها قبل ذلك بسنتين سامويل مارشال، الذي لم يكن هو أيضاً أحداً آخر سوى زوج أختها. وهدف هذه الاتحادية المعلن هو تحسين صورة الجبهة الوطنية، ونزع الشيطنة الإعلامية عنها. وفي انتخابات 2002 الرئاسية نشطت بشكل كبير ضمن حملة أبيها التي حقق فيها أول اختراق كبير ببلوغه الشوط الثاني مع الرئيس الأسبق شيراك، على حساب المرشح الاشتراكي الذي سقط. وقد استغلت فرصة صعود أبيها تلك لتتقدم هي في ذات العام مرشحة في الانتخابات التشريعية عن دائرة «لينز» بمنطقتها التقليدية في «كاليه» بالشمال. وقد بلغت الشوط الثاني في ذلك الاستحقاق، لتخسر في النهاية أمام المرشح الاشتراكي. وفي 2004 تصدرت قائمة مرشحي الجبهة في الانتخابات الأوروبية عن دائرة من دوائر باريس، وقد تم انتخابها عضوة في البرلمان الأوروبي في تلك الانتخابات. وبدأت مارين لوبن تختلف علناً مع والدها في العام التالي 2005 وخاصة بعد تصريحاته المثيرة للدجل حول فترة الاحتلال الألماني، وغابت عن الأضواء آنذاك فيما يشبه استراحة المحاربة، ولكنها عادت في مؤتمر الجبهة عام 2007 لتصدر الواجهة الحزبية. ومنذ ذلك التاريخ بدأت ملامح التوريث السياسي لزعامة الحزب من الأب إلى ابنته «مارين» تتكشف إلى أن تمت بشكل رسمي في 2011، ومنذ ذلك الوقت وهي تتولى زعامة «الجبهة»، وتترشح باسمها بما في ذلك في رئاسيات 2012 التي حصدت فيها 17,90% من الأصوات وحلت ثالثة. كما ظل نجمها السياسي يلمع ونتائجها الانتخابية تتحسن وصولاً إلى الانتخابات التشريعية الأخيرة التي حققت فيها نتائج قياسية. مستغلة قدرتها على التواصل مع وسائل الإعلام، وركوب موجة الأزمة الاقتصادية، وتحديات الهجرة والتطرف، وسوى ذلك من ديباجات ودعايات اشتغل عليها والدها منذ زمن بعيد، بل منذ تأسيسه للجبهة الوطنية في 1972. ولكن نظراً لكثير من الصور النمطية السائدة عن لوبن الأب و«الجبهة»، التي جعلت معظم الفرنسيين لا يرون هذا الحزب حزباً طبيعياً، بل يعتقدون أن يمينيته وعنصريته تجعلانه غير جاهز لتزعم البلاد، أو تولي الرئاسة مثلاً في دولة تفخر بثقافتها الديمقراطية ومنجزها في مجال حقوق الإنسان، فإن فكرة التخفف من أعباء الذاكرة حول الأب، بل التخلص من هذا الأب نفسه، تبدو مغرية جداً لمارين لوبن، الطامحة لدخول قصر الإليزيه، في وقت قريب أو بعيد. ومن هنا يرى كثير من المحللين الفرنسيين أن زوبعة صراع لوبن الأب والبنت، ما هي سوى تمثيلية لبيع سراب البنت، وجعلها في حلٍّ من تحمل تبعات مواقف الأب، وأيضاً تقديم حزب «الجبهة الوطنية» باعتباره تشكيلاً سياسياً مجدداً، بعد أن تخلص من وصمة الأب، الموصوفة بالإفراط في اليمينية والعنصرية. ولكن هل تنطلي هذه اللعبة السياسية، إن صحت، على الفرنسيين؟ هذا ما لا تدفع ردود الفعل الأولية لاعتقاده، أبداً. حسن ولد المختار