كان واضحاً من صور المستقبلين والمستقبلات في إيران لوزير الخارجية محمّد جواد ظريف وأعضاء الوفد المفاوض العائد من لوزان إلى طهران، أنّ هؤلاء لا يشبهون الجموع التي تحتشد في العادة لتحيّة المرشد علي خامنئي، أو الرئيس السابق أحمدي نجاد، هاتفةً بما وسعها من قوّة: "الموت لأميركا". بل كان واضحاً، في المقابل تماماً، أن هؤلاء الذين نقلت التلفزيونات صورهم وحماستهم، هم جمهور "الثورة الخضراء" التي قامت وقُمعت في 2009، وقبلها جمهور الرئيس السابق محمد خاتمي. فهم مرتخو الأعصاب، زاهون وملوّنون وبعيدون عن التشنّج. وإذا صحّ أن هؤلاء متلهفون لرفع العقوبات الاقتصادية الغربية عن بلدهم وشعبهم، فأبعد من هذا أن مسألة العقوبات هنا لا تعدو كونها رمزاً لمسألة أكبر عنوانها العلاقة بالغرب، لا سياسةً فحسب، بل أساساً في الثقافة والقيم والتقنية، لا سيما الجانب الاتصالي منها. وهو ما حدا بالزميل جهاد الزين (في "النهار" اللبنانيّة) إلى إطلاق تعبير "جماهير أمريكا" في إيران. والحال أنّ قطاعات واسعة من الإيرانيين تعبت من الحصار ومن العزلة، لكنها تعبت، فوق ذلك، من نظام قمعي قائم منذ 1979، يسحق فردية الفرد الإيراني وحريته وبعض حقوقه الأساسية، فارضاً عليه إيديولوجية لا يد له فيها، بل فارضاً عليه أعباء مادية باهظة الكلفة في مواجهات وحروب إقليمية لا تثير شهيته. وحتى أكثر هؤلاء انزعاجاً من السياسة الأمريكية حيال إيران، والتي يؤرَّخ لبداياتها بانقلاب الجنرال زاهدي المدعوم من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إي) على رئيس الحكومة المنتخب محمد مصدق في 1953، يرون أن المسألة استنفدت أغراضها، وأنه حان الوقت كي تُطوى صفحة الأحقاد وتُفتح صفحة أخرى. وما من شك في أن إدارة الرئيس باراك أوباما حين قررت أن تسير في طريق التفاوض مع إيران، ضداً على إرادة حلفاء كثيرين لها في سائر العالم، كانت تأخذ في اعتبارها هذا العامل، أي وجود قاعدة عريضة لا يُستهان بها بين الإيرانيين متحمسة لأحسن العلاقات مع أمريكا، ومتأثرة إلى أبعد الحدود بطريقة الحياة الأميركية، وغير مترددة في إعلان حماستها هذه على الملأ. وبدورهم فإن المراقبين الأمريكيين والغربيين لم تفتْهم، وعلى مدى سنوات طويلة، المقارنة بين هذا المزاج الشعبي الإيراني والمزاج الشعبي في معظم العالم العربي. فعربياً، وعلى المستويين الشعبي والحكومي، ولا سيما الشعبي، لم تظهر إلى الوجود أية قاعدة عريضة تدافع بصراحة ووضوح عن العلاقة الإيجابية بالغرب، ولا سيما أمريكا. كذلك لم ترتق علاقات التحالف السياسي في بعض الحالات، وبعض الدول، إلى إعلان انحياز صريح لطريقة الحياة الغربية. ولنا هنا أن نضرب مثلين معروفين جداً: ففي الكويت الذي بنت الولايات المتحدة تحالفاً دولياً عريضاً في عهد جورج بوش الأب لتحريرها من الاحتلال العراقي الصدامي، عبر مواطنون كويتيون عن حماستهم للولايات المتحدة، وعن شكرهم لها. لكنْ ما إن حلت الانتخابات النيابية العامة الأولى في كويت ما بعد التحرير حتى حققت القوى الإسلامية – الشديدة العداء للثقافة وطريقة الحياة الغربيتين – انتصارات باهرة. ثمّ في العراق، حيث تولت أمريكا في عهد جورج بوش الابن إطاحة صدام خسين في 2003. فهناك أيضاً ظهر مواطنون عراقيون يعبرون عن امتنانهم لما فعلته أمريكا، لكن السجال السياسي بين سائر الأطراف العراقي ما لبث أن اتخذ طابعاً من العداء الصارخ للأمريكيين. هكذا باتت تدور المزايدة بين تلك الأطراف حول إثبات كل منها أنه الأكثر عداء ومقاومة لهم. وكان من اللافت أن الأكراد العراقيين وحدهم هم الذين لم تنطبق عليهم هذه القاعدة. وقد يقال إن الدعم الأمريكي لإسرائيل، خصوصاً منذ حرب 1967، هو السبب وراء هذا الموقف الذي يتراوح بين الحذر والسلبية. لكن هذا التقدير لا يصلح، في أغلب الظن، إلا لتقديم صورة جزئية عن تلك العلاقة. ففي مقابل دعم إسرائيل، دعمت الولايات المتحدة حركة الاستقلالات العربية من الطرفين الاستعماريين الفرنسي والبريطاني، وقد خالفت السياسةَ الفرنسية في ما خص استقلال الجزائر خصوصاً. كذلك من المعروف جيداً أن أمريكا في عهد دوايت أيزنهاور هي التي وقفت، في 1956، إلى جانب مصر، ما أدى إلى حرمان البريطانيين والفرنسيين والإسرائيليين ثمار الانتصار العسكري الذي حققوه في حرب السويس المعروفة عربياً بالعدوان الثلاثي. من المرجّح إذن أننا أمام تراكم ثقافي معاد للغرب تطور جيلاً بعد جيل في العالم العربي، كما من المرجح أن تكون أسبابه ثقافية أكثر منها سياسية. في الحالات كافة فإن جميع التيارات الإيديولوجية التي تعاقبت على المنطقة في القرن العشرين (اليسار، القومية العربية، الإسلام السياسي) إنما أكدت على مركزية العداء للغرب، ولو أعطته تسميات أخرى تتراوح بين الصليبية والاستعمار والإمبريالية الخ... هكذا إذا كان التاريخ لا يحول ولا يزول لدى أغلبية العرب، فإن الأمر لا يبدو على هذا النحو عند الإيرانيين. وما من شك في أن إدارة أوباما أخذت هذا العامل في الحسبان حين أقدمت على ما أقدمت عليه، خصوصاً بعد قراءتها للنتائج المُرّة التي ترتبت على حرب الرئيس السابق جورج دبليو بوش في العراق. ومن يدري، فعملاً بهذا الحساب ربما فكرت الإدارة الحالية في واشنطن بأن القاعدة الواسعة التي تتعاطف معها ومع نموذجها بين الإيرانيين، قد تجد في المسار التسووي فرصة لها كي تقوي مواقعها في بلدها على حساب السلطة القائمة. وليس من المستبعد أن تعجز إيران الخمينية بعد تربية عدد من الأجيال على أن أمريكا هي الشيطان الأكبر، عن تكييف ذاتها مع صورة مختلفة وأقل سلبية عن أميركا. ولا شك أن عجزاً كهذا سيمد خصوم السلطة في طهران بحجج أقوى، وربما أيضاً بأدوات أفعل وأشد تأثيراً.