يطرح مشهد العنف في العالم العربي أسئلة معقدة حول العوامل التي أدت إلى ظهور أشكاله العنيفة وجعلت من المنطقة محط اهتمام عالمي، بينما على الجانب الآخر لم يتحرك العرب لفهم أبعاد وأسباب تنامي هذه الظاهرة، وكل ما نقوم به لا يكاد يتعدى عمليات شكلية لا تعالج الظاهرة التي انتشرت بسرعة فائقة. ولعل غياب العقلانية عبر التاريخ يكون أحد الأسباب التي تقف وراء ظاهرة اللامبالاة العربية في فهمنا للظواهر الطارئة التي تشكل منعطفات كبيرة في حياتنا، ولها تأثيراتها السياسية المستقبلية. ولذا لا نرى جهوداً موحدة تتجه نحو معرفة أسباب تنامي ظاهرة العنف المدمر، ولا نملك رؤية مشتركة تجمعنا على كيفية الخروج من المآزق، وكل ما نملكه محاولات مجزأة وناقصة في التصدي للظاهرة. وكل دولة عربية قد تعتقد أنها بمعزل عن العنف، ومن ثم ترسم سياساتها وفق رؤيتها المنعزلة، ولا نحاول أن نفهم الظاهرة بشمولية، وضمن رؤية متكاملة في أسبابها المحلية والعالمية. واليوم على أرض الواقع لدينا خريطة سياسية جديدة تتفاقم مخاطرها بقوة وضمن استراتيجية قد تتجاوز حدودنا الإقليمية، فلدينا يَمنٌ يتغير بسرعة غير طبيعية وتسقط الشرعية فيه في لمح البرق بفعل تمرد مليشيات عنف حوثية متطرفة، وتقابل ذلك وقفة عربية ترفض الواقع الجغرافي الجديد الذي يحاول الحوثيون فرضه. والحقيقة المُرة التي لا يمكن السكوت عليها، هي أن الواقع الجديد جاء ضمن رؤية استراتيجية دفع بها الغير لإحداث تغيير جغرافي في الخريطة السياسية. واليمن كما يعرف الجميع أهمل من قبل النظام الإقليمي العربي، وجعلنا هذه الدولة العريقة تسقط دون مراعاة لتداعيات التغير فيها. وأما العراق فهو اليوم ممزق، ولا نرى احتمال عودته كما كان في المنظور القريب أيضاً، وربما تتكشف أيضاً خريطة سياسية وجغرافية جديدة ذات نتائج خطيرة على المكونات الاجتماعية التي تعايشت في المنطقة. والحال في ليبيا لا يختلف كثيراً ولا يقل خطورة عن الدول التي أصابها المرض العربي، فهي اليوم مجزأة ومتناحرة ولا يبدو في الأفق أنها تتجه نحو الشفاء. وفي سوريا، الوضع يتردى ويتجه نحو التجزئة الجغرافية والسياسية الجديدة التي لا تختلف عما يحدث في الدول الأخرى التي أشرنا إليها. أما «داعش»، فقد تحول إلى خطر متفاقم على السلام والاستقرار في المنطقة. ومقابل ذلك لا نجد استراتيجية عربية في حدودها الدنيا تعمل على حماية الخريطة السياسية الحالية من مخاطر العنف والتفكيك والتفتيت. ونعتقد أن الإشكالية التي تواجهنا تتمثل في القناعات المجزئة التي تعمل دون تنسيق كاف لمواجهة محاولات فرض خريطة سياسية وجغرافية قائمة على تفتيت مكونات اجتماعية هي كلها جزء من تاريخ المنطقة. ومن الواضح أن العرب لا يملكون أي مشروع عقلاني يضمن استقرار المنطقة، وينجو بها من عواصف مدمرة. فالحالة العربية وصلت إلى مرحلة مؤلمة لا مثيل لها في تاريخنا، واستمرار تجاهل الظواهر والمتغيرات السريعة من حولنا يشكل أحد أعمق المآزق التي يمر فيها عالمنا العربي. وعلى المستوى العالمي، نلاحظ أن هناك توجهات تخرج من رحم الأزمات التي يعيشها العرب، وربما لا نستغرب عقد اتفاقيات جديدة تفاجئنا، وقد يسوء الحال إلى درجة تحول الواقع الجديد إلى ما يشبه الأمر الواقع، ومن ثم نبدأ مسيرة النواح التي تعودنا عليها. فالتردي العربي وصل إلى مرحلة عميقة، والخسارة تلوح في الأفق، مرة أخرى، إلا أنها أكثر قسوة، هذه المرة، وربما تكون هي النكسة الكبيرة، إنْ جاز التعبير. * كاتب كويتي