ليست الثورة ضد الاحتلال نظرية ثورية وطنية أو قومية أو إسلامية أو ماركسية بل هي فعل ثوري تنصهر فيه الأيديولوجيات النظرية، وتتوحد في العمل الثوري الموحد. فالانتفاضة وحدة وطنية تتحقق بالفعل، تعطي الأولوية للعمل على النظر، وللفعل على القول، وللموقف على الشعار. حدث ذلك تلقائياً وبدافع وطني طبيعي دون نظرية مسبقة في الوحدة الوطنية أو الجبهة الوطنية أو الائتلاف الوطني. واستطاعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى أن تبني المؤسسات الثورية بفضل القيادة الموحدة للانتفاضة سواء في تنسيق العمل النضالي السلمي وتنظيم الإضرابات أو في تكوين نواة الاقتصاد الثوري المستقل عن النشاط الاقتصادي لنظام الاحتلال. فلم تكن الانتفاضة مجرد حركة شعبية بل كانت بناء ونضالاً سلمياً في السياسة والاجتماع والاقتصاد والتاريخ. واستمرت تلك الانتفاضة أكثر من عشرة أشهر، على رغم مراهنة الاحتلال على سرعة قمعها وتصفيتها وطرد قادتها. وأصبحت الانتفاضة قادرة على إبداع أساليب ثورية جديدة، وتجاوزت ازدواجية التمثيل وازدواجية الهوية، وبدأ الخيار الفلسطيني والتمثيل الواحد والهوية الفلسطينية، شعباً وقيادة. وكانت إحدى ثمرات الانتفاضة بداية التفكير الجدي في الوقت المناسب للإعلان عن الدولة الفلسطينية المستقلة. فقد استطاعت الانتفاضة أن تبني مؤسسات الدولة من القاعدة إلى القمة: الوحدات المنتجة، التنظيمات الجماهيرية، أجهزة الإعلام، اللجان الشعبية، القيادة الموحدة... إلخ. ولطالما كثرت النداءات من قبل لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، ولم تجد إلا آذاناً دولية صماء. ولكن بعد تلك الانتفاضة ظهر بناء الدولة ومؤسساتها الشعبية والدستورية، ولم ينقصها إلا الإعلان والاعتراف الدولي. فالمضمون يسبق الشكل ويفرضه، والشكل وحده لا يعطي مضموناً. وأخذت قرارات القمة خاصته مقررات مؤتمر فاس مضمونها بعد أن كانت مجرد قرارات مثل سابقتها. واستطاعت المنظمة أن تطور ميثاقه ا من دولة فلسطينية ديمقراطية علمانية يعيش على أرضها كل من يشاء بصرف النظر عن دينه وجنسه ولغته إلى دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عاصمتها القدس وطبقاً لقرار الأمم المتحدة عام 1948 الذي أقر شرعياً ودولياً بإنشاء دولة فلسطين المستقلة على أرضها. لقد هزت سلمية الانتفاضة المجتمع الإسرائيلي، وأخذ نظام الاحتلال الصهيوني على حين غرة. فقد استعد العدو بالسلاح، وانتظر المعركة على أرض الغير. ولكن الانتفاضة هذه المرة أتت من داخل الأرض المحتلة كحركة شعبية غير مسلحة فحاصرت الاحتلال، ووضعته في مأزق تاريخي أمام شعبه المهاجر القادم من وراء البحار تحقيقاً لأسطورة الميعاد التي تحطمت على أرض الواقع. وبالتالي قويت الحركات الداعية إلى السلام وازدادت مراجعات الصهيونية لنفسها، وعلت الأصوات المنادية بحقوق شعب فلسطين من داخل الأراضي المحتلة قبل 1948، وزادت الجماعات الرافضة للنظام العنصري للصهيونية، ودبت في الجليل الأعلى روح المقاومة والنضال، وعادت إلى أذهان أهله ذكريات فلسطين العربية قبل قيام دولة الاحتلال. كما أثرت سلمية الانتفاضة الأولى أيضاً على الساحة العربية. فوحدت العرب بعد أن فرقتهم الحروب الإقليمية والنزاعات الطائفية ومعارك الحدود والتخوين المتبادل بين بعض الأنظمة عبر أجهزة الإعلام. ولم يستطع أي نظام عربي وأد الجنين الجديد بل اجتمع العرب على حمايته. وتوقفت حرب الخليج الأولى، التي امتدت لمعظم عقد الثمانينيات، وانتهت الحرب الأهلية اللبنانية، وبدأت التجمعات الإقليمية العربية في الظهور في المغرب العربي بعد ظهورها في المشرق العربي. وعادت مصر تدريجياً إلى مكانها الطبيعي في قلب الأمة العربية كي تنهي أسوأ عقود في تاريخها الحديث. وتمسكت الشعوب العربية بأمل جديد بعد أن أضناها اليأس، وعمها العجز. وأصبح الرأي العام العالمي أكثر قبولًا لحقوق شعب فلسطين، أكثر من أي وقت مضى بعد أن شاهد العالم كله تكسير أصابع الفلسطينيين وأذرعهم، وتشييع جماهير شعب فلسطين لشهدائها ورفع أعلام فلسطين على أعمدة النور وأسطح المنازل، وحوار النساء مع جنود الاحتلال، ورمي الأطفال بالحجارة، ودفاع الأمهات عن الأطفال ضد ضرب جنود الاحتلال. والغرب لا يعرف إلا لغة الواقع، ولا يستمع إلا لأقوال المنتصر. وكما كانت معركة الكرامة إثر هزيمة 1967 ميلاداً للمقاومة الفلسطينية فقد كانت سلمية الانتفاضة الأولى بعد عشرين عاماً ميلاداً جديداً للدولة الفلسطينية. وهذا هو أهم دروس سلمية الانتفاضة.