هل صحيح أن العمل الإرهابي لا يعود على مرتكبه إلا بما هو أسوأ وأشد ضرراً؟ يثبت التاريخ وعلم الاجتماع معاً أن الجواب هو: نعم. غير أنهما يثبتان معاً أيضاً أن ثمة استثناء. وأن الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة الأخلاقية العامة هو إسرائيل. ولكن كيف؟ للإجابة عن هذا السؤال لابد من التوقف أمام أمرين أساسيين، الأمر الأول هو أن بريطانيا كانت تحتلّ فلسطين (أو أن فلسطين كانت خاضعة للانتداب البريطاني) حتى عام 1948. وكانت الحركة الصهيونية تريد إخراج بريطانيا لإعلان فلسطين دولة إسرائيلية. لم تؤدِّ المباحثات السياسية إلى نتيجة. فعمدت الحركة الصهيونية إلى الإرهاب. ففي 22 يوليو 1946 تولت حركة إرهابية تعرف باسم «أريجون زفي ليؤمي» (أي المنظمة العسكرية الوطنية) تفجير فندق الملك داود في القدس الذي كانت السلطات البريطانية تتخذه مقراً لها. فقد زرعت المنظمة سبع عبوات ناسفة في سبعة براميل للحليب، وأدى انفجارها إلى انهيار ست طبقات من المبنى وإلى مقتل 92 شخصاً، بينهم عسكريون ومدنيون بريطانيون وعرب ويهود. وفي ذلك الوقت اعتبر هذا الحادث هو أشد الأعمال إرهابية في التاريخ الحديث. كان يتزعم الحركة الإرهابية اليهودية مناحيم بيجين، الذي تولى رئاسة الحكومة الإسرائيلية فيما بعد. وهو الذي وقّع في كمب ديفيد مع الرئيس أنور السادات على معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية في عام 1979. وقبل ذلك في السادس من نوفمبر 1944 اغتالت منظمة إرهابية صهيونية ثانية هي «الهاجاناة»، اللورد «موين» الصديق الشخصي لرئيس الحكومة البريطانية ونستون تشرشل، الذي كان يشغل -من القاهرة- منصب وزير مفوض لبلاده في الشرق الأوسط. وفي ذلك الوقت كان تشرشل يعمل على صياغة مشروع لتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب، إلا أن اليهود كانوا يتطلعون إلى استثمار مأساتهم في الحرب العالمية الثانية لينتزعوا فلسطين كاملة، وليحولوها إلى دولة يهودية. ولذلك عملت المنظمات الإرهابية الصهيونية على إخراج بريطانيا من فلسطين لإجهاض هذا المشروع الذي ما كان الفلسطينيون يقبلون به أيضاً. وهكذا تحت ضغط العمليات الإرهابية اضطرت الحكومة البريطانية إلى الانسحاب من فلسطين متخلية عن تعهداتها للأمم المتحدة. وبهذا الانسحاب يكون الإرهاب الصهيوني قد حقق هدفه! وتؤكد الإحصاءات عن عدد ضحايا العمليات الإرهابية التي استهدفت القوات البريطانية على يد المنظمات الإرهابية الصهيونية أنه قد بلغ نحو 300 شخص بين عامي 1945 و1947، بمن فيهم ضحايا فندق الملك داود. أما عدد ضحايا الإرهاب الذي استهدف المواطنين الفلسطينيين، فهو خارج هذا الإحصاء. ومن هنا كان الأمر الثاني التخلص من الفلسطينيين، وهو الهدف الآخر الذي حققه الإرهاب الصهيوني بتهجيرهم من مدنهم وقراهم. فقد تولت هذه المهمة الحركات الإرهابية الصهيونية المتعددة مثل «الهاجاناة» (بزعامة ديفيد بن جوريون الذي أصبح أول رئيس حكومة لإسرائيل في عام 1948)، و«أريجون» و«شترن» وسواها من المنظمات الإرهابية اليهودية، التي كانت تطلق على نفسها اسم «مقاتلون من أجل حرية إسرائيل»، وتولت ارتكاب مجازر ضد الفلسطينيين لإرهابهم وحملهم على الهجرة. ويروي كتاب جديد للمؤرخ البريطاني بروس هوفمان عنوانه «الصراع من أجل إسرائيل 1917-1947) الجرائم الإرهابية، التي ارتكبتها المنظمات الصهيونية ضد القوات البريطانية. ويقف بكثير من الاستحياء أمام الجرائم التي تعرض لها الشعب الفلسطيني. لقد كان العالم كله على معرفة بهذه الجرائم، خاصة الولايات المتحدة والدول الأوروبية، إلا أن أحداً لم يتدخل لوقفها أو حتى لإدانة أصحابها. ولذلك حقق الإرهاب الصهيوني النجاح بتحويل فلسطين إلى دولة يهودية. أما لماذا سكت العالم عن تلك الجرائم الإرهابية فكتاب المؤرخ هوفمان يجيب على هذا السؤال بصورة غير مباشرة. فبعد الحرب العالمية الثانية ورثت أميركا وأوروبا تركة ثقيلة ما كان أي منهما راغباً فيها أو قادراً على تحمّل أعبائها. وتتمثل تلك التركة في وجود 100 ألف يهودي في المعسكرات، لا تريدهم أي دولة. وكان الحل الوحيد لإبعاد هذا الكأس المرّ هو إرسالهم إلى فلسطين. إن نقل هؤلاء اليهود من أوروبا إلى فلسطين كان يتطلب بالضرورة تمهيد الأرضية لاستقبالهم. ولأن العرب الفلسطينيين كانوا يقاومون هذه الهجرة اليهودية ويتصدون لها، لذلك كان لابد للعمليات الإرهابية الصهيونية أن تأخذ مداها حتى تكتمل فصول تهجير الفلسطينيين، وحتى تفتح الأبواب أمام المهاجرين اليهود. وهكذا أزيلت مخيمات اليهود من أوروبا، وانتشرت مخيمات للاجئين الفلسطينيين في الدول العربية: لبنان وسوريا والأردن ومصر. وبالنتيجة يكون الإرهاب الصهيوني قد حقق أهدافه.. وهو استثناء القاعدة الإنسانية العامة!