على رغم كل مظاهر التحديث التي دخلت على المجتمع اليمني فإن القبيلة لا تزال تمثل الظاهرة الاجتماعية الأبرز في البلاد، وهي تنقسم إلى ثلاثة مستويات، الأول هو النظم التي تتوزع فيها القوى السياسية وفقاً لمعايير السن والمكانة، وهي نظم شبه أبوية يميل بناء القوة فيها نحو المساواة. والثاني يتعلق بالنظم التي يقوم بناء القوة فيها على معايير عسكرية قتالية كالقبائل النائية عن العمران، الموغلة في البدائية. أما الثالث فيتمثل في النظم التي يقوم بناء القوة فيها على معايير الوضع الاقتصادي والعصبية والمكانة الاجتماعية والسياسية. وتتوزع هذه النظم الاجتماعية الثلاثة على نمطين أساسيين، فهي إما أن تكون نظم سياسية قبلية منعزلة ومغلقة على نفسها، يختفي أثرها في بناء القوة الرسمي للدولة المركزية، وإما أن تكون نظماً سياسية قبلية منفتحة نسبياً تفرض نفسها على بناء القوة الرسمي، عبر وجهائها ومشايخها، ولكنها لا تفقد صلتها بالعصبية، ولا تخرج عن الصيغة التقليدية للتركيب الاجتماعي، القائم على تراتب فئوي أو شرائحي. ويحتل «شيوخ المشايخ» قمة الهرم الاجتماعي في البنية القبلية، ويشكلون فئة متقاربة الخصائص، متماثلة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. ويأتي بعد ذلك المشايخ ورؤساء العائلات والأفخاذ، ثم «قضاة الشريعة» وعلماء الدين، يتبعهم رجال القبيلة العاديون، الذين تشبه أوضاعهم ما عليه الفلاحون في القرى الزراعية، مع اختلاف طبيعة المهن التي يعملون فيها. وأخيراً تأتي الجماعات الهامشية، كالدواشن «المطربين الشعبيين»، وأصحاب الحرف الخدمية مثل الجزارين والمزاينة.. إلخ. وهذا التمييز داخل القبيلة، الذي لا يقوم على أي علاقة بمبدأ «الاستحقاق والجدارة»، جعل الفئة المحدثة من اليمنيين يعتبرون تلك الأوضاع الاجتماعية بأنها بمثابة العودة إلى الجاهلية، وذلك لأنها تنتهك قاعدة إسلامية أساسية تؤكد المساواة بين البشر، وأن التقوى هي المعيار الوحيد للتفرقة بينهم، وليس أسطورة تزعم استنادها إلى أسس دينية، أو ظلم اجتماعي قاهر. ويقع «السادة» في موضع متميز من الخريطة الاجتماعية في اليمن، إذ إنهم يقولون بانتسابهم لآل بيت رسول الله صلي الله عليه وسلم، وأنهم ينحدرون من أصول عدنانية، بينما تعود جذور بقية سكان اليمن إلى القحطانيين. ويتوزع «السادة» على الطائفتين الشافعية والزيدية، ولكن أغلبهم ينتمون إلى الأخيرة، وينقسمون إلى شرائح «عائلات»، تختلف فيما بينها من حيث الشهرة والمكانة، ويتوقف هذا على مدى قربها أو بعدها عن السلطة السياسية. والسيد أو الشريف لا يتزوج إلا بسيدة أو شريفة. وهناك بعض التساهل في شمال اليمن بالنسبة للذكور، إذ يسمح لهم بأن يتزوجوا فتيات من خارج فئة السادة، شريطة أن تعود جذورهن إلى شريحة اجتماعية مرموقة، ولكن ليست هناك أي مرونة بالنسبة للفتيات اللائي تنتمين إلى فئة «السادة»، وذلك لأن الذكر يورث السيادة، أما الأنثى فلا تورثها، وإذا مات السيد لا تتزوج زوجته من بعده، وإذا كانت الزوجة من خارج فئة «السادة» يكون لزاماً عليها أن تكني أبناءها بـ«سيدي فلان»، لأنها لا تكتسب السيادة بالزواج من سيد. وتعود المكانة الاجتماعية لـ«السادة» إلى النسب، فضلاً عن ارتباطهم بمعرفة الشرع الإسلامي في البداية. فحين جاء الزيديون من الحجاز وطبرستان وجدوا الصفوة اليمنية، المتمثلة في شيوخ القبائل، تفتقد إلى الإلمام بأصول الشريعة الإسلامية وأحكامها، الأمر الذي جعلهم ينظرون إلى هؤلاء القادمين على أنهم مالكو فهم معاني القرآن والسنة، ومن ثم لانوا لهم. وبحكم هذا فصل «السادة» أنفسهم عن بقية فئات المجتمع اليمني! وإذا كان النسب الذي ينبع من خلفية دينية هو الذي أعطى «السادة» مكانة اجتماعية في اليمن فإن الدين فقط هو الذي منح «القضاة»، وهم الذين تفقهوا في الشريعة الإسلامية، مكانتهم، إذ إنهم ينحدرون من الأسر التي درس أبناؤها علوم الشريعة وامتهنوا القضاء. وقد شكل هؤلاء، بمرور الزمن، فئة متميزة يتوارث أبناؤها لقب القاضي حتى ولو انقطعوا عن ممارسة القضاء أو جهلوا علوم الشريعة الإسلامية. وتتوزع القبائل اليمنية والشرائح الاجتماعية على ثلاث طوائف رئيسية، الزيدية والشافعية والإسماعيلية. والأولى طائفة شيعية يعود تاريخها في اليمن إلى عام 894م، وقد بدأ وجودها في منطقة صعدة، ثم امتد نفوذها إلى كافة ربوع اليمن الشمالي، وإليها ينتمي الأئمة الذين حكموا اليمن، منذ التاريخ المذكور سلفاً، حتى عام 1962. والثانية طائفة سُنية لا تعترف بأولوية أهل البيت في الخلافة ولا بأحقية الزيدية في السلطة، وهي تعتنق المذهب الشافعي، ويتركز أتباعها في المنطقة الوسطى والجنوبية وسهل تهامة وبعض أجزاء المنطقة الشرقية. أما الثالثة فهي طائفة شيعية أيضاً، ظهرت في اليمن عام 901م، لكن عددها يربو قليلاً على ستين ألف نسمة، يستوطنون منطقة حراز التابعة لمحافظة صنعاء.