يبدو أن الولايات المتحدة وروسيا منخرطتان في مواجهة أيديولوجية حقيقية، لكنها تظل غائبة عن أفهام الأوروبيين، وربما حتى البعض داخل البيت الأبيض، وترجع بداية الصراع إلى فبراير من العام الماضي عندما وجد الرئيس الروسي، فلادمير بوتين، نفسه منصرفاً إلى ما يشبه المعركة الدفاعية لصد التدخل الأميركي في أوكرانيا، وهو اليوم تحت الحصار الأميركي وحلف شمال الأطلسي بعد أن انتهى الدعم الغربي للثورات الملونة في البلدان المجاورة إلى انقلاب عسكري في أوكرانيا، ثم إلى حرب صغيرة تلت ذلك في المناطق الشرقية، وعندما لم تسر الخطط التي رسمتها وزارة الخارجية الأميركية وحلف شمال الأطلسي كما كان مطلوباً بدأ البحث عن الانتقام، ولحسن الحظ تدخلت كل من ألمانيا وفرنسا في مينسك لمنع تسليح أميركا لأوكرانيا والتسبب في حرب جديدة قد تلتهم أوروبا كلها. وفيما تستمر الهدنة الموقعة بين أطراف الصراع، إلا أن "الناتو" لم يتوقف عن رغبته في الانتقام من خلال استعراضه للقوة مثل إجراء تمارين عسكرية مشتركة في بولندا ودول البلطيق والتي من المتوقع أن تمتد لتشمل أيضاً رومانيا، هذا في الوقت الذي سعت فيه واشنطن للتقارب أكثر مع تركيا وتركمانستان وأذربيجان بإغرائهم اقتصادياً وذلك بهدف تعطيل المشروع الأوراسي للتجارة الحرة الذي تراهن عليه موسكو. وفي تبريره لتحركه يقول بوتين إن طموحه السياسي الأبرز هو استعادة الثقافة الروسية ومعها جوانبها الدينية والتاريخية التي كانت عليها في الماضي، وهكذا كان رجوع القرم بمثابة الجائزة الكبرى التي قدمتها له أميركا بتدخلها غير الموفق في شرق أوروبا وسعيها لانتزاع أوكرانيا من النفوذ الروسي التقليدي، ولم يكن ذلك التدخل فرصة للعدوان من قبل روسيا، بل فقط فرصة سانحة لتأكيد عودة روسيا إلى الساحة الدولية على حساب المصالح الأميركية، بحيث يمكن تلخيص طموح بوتين في قيام «روسيا الجديدة» كما كانت في عهد القياصرة، وهو من أجل ذلك أعاد الهيبة الضائعة للكنيسة الأرثودكسية، ورسخ القيم الدينية، بل سعى لاستحضار الفلاسفة المسيحيين القدامى ومناقشة أعمالهم بين النخبة الحالية في محاولة لإشباعهم بالبعد الرمزي والتاريخي للثقافة الروسية، حيث جمع كبار مسؤوليه السنة الماضية ليشاركوا في مؤتمر مباشرة بعد السيطرة على القرم اختار له اسم دال هو «مصير روسيا». وقد سعى الكاتب الفرنسي، "ميشيل إلتشانينوف"، إلى عقد مقارنة بين ما يسعى له بوتين وبين شعار «الدولة الجديدة» الذي رفعه "أنطونيو سالازار" في البرتغال بين 1993 و1974، وإذا كان البعض يطلق على هذا النموذج اسم الفاشية، فإن التعريف الأصح لهذا النظام الشمولي كما كان قائماً في البرتغال، هو الدولة المحافظة ذات التوجه الديني والقومي. ومن الناحية السياسية يعتمد بوتين على القومية السلافية وعلى التحالفات القديمة في منطقة آسيا الوسطى، كما يسعى لتشكيل تحالفات أخرى جديدة تجمعه مع بعض الحركات السياسية الغربية التي برزت في الآونة الأخيرة، وبالطبع لا علاقة لهذا النزوع القومي والمحافظ لبوتين بالأوصاف الغربية المتشددة مثل النازية وغيرها. لكن ما يعوق هذه الفكرة الروسية المستجدة القائمة على التقاليد وعلى روسيا قوية هو الخصم الأميركي العنيد، فما يحرك هذا النشاط الأميركي المحموم لهندسة الانقلاب في أوكرانيا ونشر الأسلحة الغربية والتسبب في كل هذه الأزمة هو تحالف المحافظين الجدد في واشنطن والذي يبدو أن أوباما أوكل إليهم مهام السياسة الخارجية، هذه الجماعة تضم مكتب الشؤون الأوروبية في وزارة الخارجية الأميركية، ومسؤولين كبارا في وزارة الدفاع، وأيضاً نظراءهم في "الناتو"، هذا بالإضافة إلى بعض مراكز التفكير ووسائل الإعلام. وبالتمعن جيداً في أهداف هذا التيار الذي ما زال نشطاً في أروقة القرار الأميركي نجد أنه لا يختلف كثيراً عن فكرة بوتين الساعية إلى استعادة القيم الدينية وخلق مؤسسات حكومية قوية ليتبدى ذلك في محاولات هؤلاء المحافظين الجدد إنشاء حركة سياسية تؤسس لما يسمى «القرن الأميركي الجديد»، وحتى لو لم يكن الأمر معلناً بصراحة، ينظر "المحافظون الجدد" إلى أميركا باعتبارها «روما جديدة» التي تمارس نفوذها العالمي ولا تتردد في استخدام القوة ضد خصومها، والخلاصة أن التشابه كبير بين تطلعات بوتين وتصوراته بشأن روسيا وبين أفكار "المحافظين الجدد" في محاولات مشتركة لاستعادة التاريخ والتعامل معه برومانسية تجافي الواقع ولا توافقه. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون ميديا سيرفس»