في كلمته البالغة الأهمية التي ألقاها الرئيس «عبدالفتاح السيسي» عقب اجتماعه الذي استمر ستة ساعات متواصلة مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وردت عبارة محورية مبناها «نحن أمة في خطر تدافع عن نفسها وتحمي نفسها وتنهض مرة أخرى لتستعيد مكانتها»، وهذه العبارة الموجزة تعكس الانتماء العروبي الأصيل لمصر التي لا ينفصل أمنها القومي عن الأمن القومي العربي ككل. والإشارات ذات الدلالة هي أن الأمة العربية في خطر شديد، ولابد لها أن تدافع عن نفسها، وتلم شتات دولها المبعثرة وخصوصا بعد ثورات «الربيع العربي»، حتى تنهض من جديد، وتصبح قوة إقليمية يحسب لها من يمثلون مصادر تهديدها ألف حساب. ولو تأملنا خريطة العالم العربي الآن لأدركنا حجم الهوة العميقة التي وقعت فيها بعض الدول العربية نتيجة عاصفة «الربيع العربي التي تداخلت فيها بشكل واضح الأوضاع الداخلية المتدهورة بحكم الاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي، مع التأثيرات الخارجية المشبوهة التي انطلقت من مخطط استعماري تآمري شاركت في صياغته الولايات المتحدة الأميركية ودول حلف »الناتو« وإسرائيل. وعلى ذلك نتساءل ما هى مآلات عاصفة الربيع العربي؟ سقطت الدولة الليبية، وصعدت المليشيات العسكرية، وتنوعت الجماعات الجهادية الإسلامية المتطرفة، وارتفع صوت دعاة الانفصال وسادت الفوضى العارمة. وفي مصر استطاعت جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية أن تهيمن على مطلق السلطة في مصر، بعد انتخابات برلمانية ورئاسية شابها العوار السياسى والاجتماعي والثقافي، ولم تنج الدولة المصرية من السقوط إلا بمعجزة تاريخية. أما في العراق، فقد نجم عن الغزو الأميركي له تمزق نسيج المجتمع العراقي وسيطرة الشيعة على مقاليد الحكم وإقصاء السنة، مما سمح لعصابات تنظيم داعش أن تظهر وتتمدد وتجذب لها أنصارا من السنة الذين عانوا من الاضطهاد الشيعى. وفي سوريا وحرب أهلية طاحنة اختلطت فيها الأوراق بين نظام استبدادى يحاول الدفاع عن بقائه بأى ثمن، وحركات معارضة بدأت وطنية وانتهت في الواقع إلى أيدى تنظيم القاعدة وداعش حما بالسقوط الوشيك للدولة. وفجأة برزت مشكلة «اليمن» التي مرت باضطرابات عنيفة في الفترة الماضية عكست عمق التنافس القبائلي وخطورة الإحتراب الأهلي، والذي انتهى بغزو »الحوثيين« لصنعاء والسيطرة عليها وعلى أقاليم متعددة، مما خلق للسعودية ومصر مشكلة خطيرة، لأن الحوثيين بحكم علاقتهم الوثيقة بإيران التي تمددت في العراق ولبنان وسوريا يمكن أن يكون تحالفها مع »الحوثيين« مصدر خطر شديد على الأمن القومي العربي، وخصوصاً المخاوف من سيطرتهم على «باب المندب»، ولذلك جاء في الكلمة الخطيرة التي ألقاها الرئيس «السيسي» وفيها رد مباشر على هؤلاء الذين يتساءلون مالنا وما اليمن قوله بالنص :»نحن نتعاون من أجل البناء والتعمير وليس العدوان على أحد نتكلم عن حماية ودفاع وتأمين مضيق باب المندب، وهو أمن قومي ومصري وعربي. والأمن القومي في الخليج لأي دولة عربية من أمن مصر القومي، ولن يستطيع أحد النفاذ بيننا وبين أشقائنا». هكذا بلور الرئيس «السيسي» عقيدة مصر السياسية، وهي أن الأمن القومي المصري جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي، ومن ناحية أخرى على الأمة أن تنهض مرة أخرى لتستعيد مكانتها. والواقع أن خطاب «السيسي» يتضمن نظرة متكاملة في الأمن القومي، لأنها ألفت تأليفاً خلاقاً بين المفهوم التقليدي للأمن القومي الذي يركز على الموقع، ويعتمد على الدفاع عن الدولة باستخدام السلاح، وعلى نهوض الأمة في نفس الوقت، والذي يقوم على أساس التعريف الجديد للأمن القومي وهو أن الأمن القومي هو التنمية. غير أن هذا التعريف الذي صاغه «ماكنمارا» وزير الدفاع الأميركي الشهير منذ سنوات بعيدة تجاوزه الزمن، لأنه ركز على التنمية في بعدها الاقتصادي، والذي يتمثل في رفع مستوى جودة الحياة في المجتمع بشكل عام، ولكنه لم يفطن إلى أن هذا التعريف الضيق للتنمية يقصر عن النفاذ إلى عمق مفهوم التنمية في عصر العولمة، والذي يتمثل في المقام الأول في التنمية الثقافية. بعبارة أخرى لا يكفي على الإطلاق ونحن نعيش في عالم تسوده الأفكار المتطرفة والنزعات الدينية المتشددة والتي تحولت إلى إرهاب معولم بات يهدد الدولة العربية والإسلامية، بل دول العالم جميعاً بلا استثناء، أن نركز فقط على التنمية بالمعنى التقليدي. ولكن لابد من مواجهة الأفكار المتشددة التي تنبع من أصحاب العقول المغلقة، وتنمية «العقل النقدي» الذى يضع كل شيء في الحياة- بما في ذلك بعض المعتقدات الدينية المتشددة- موضع التساؤل. وهذه المعتقدات الدينية المتشددة تستند إلى أفكار «المركزية الإسلامية» والتي– في صورتها المرضية- تعلي من شأن المسلمين، وتحتقر بل وتعادي غير المسلمين وتجعلهم مباشرة أهدافاً سهلة للقتل والاغتيال والإرهاب. في ضوء هذه الملاحظات المهمة لابد من إدخال تعديلات جوهرية على النموذج المعرفي التقليدي للأمن القومي والأمن القومي التنموي في نفس الوقت. بالنسبة للأمن القومي التقليدي انتهى زمان «حروب الجيل الثالث» التي كانت تعتمد على الأسلحة الثقيلة والحشود العسكرية الضخمة، ودخلنا عالم «حروب الجيل الرابع».