قال لي صديق ذات مرة لماذا كل هذا الجلْد للذات العربية في مقالاتك، وكأن المشهد في العالم العربي كله سلبي، فالناس يحتاجون إلى الأمل والتحفيز والتفائل. وأنا لا أختلف مع صديقي في ذلك، غير أنني أتوقف عند حقيقة أن التفاؤل والبرمجة الإيجابية يجب أن تكون سياسات واستراتيجيات دول ومجتمعات كاملة، وليس فقط مجهود أشخاص يتحدثون بمنطق لا يفهمه رجل الشارع البسيط، ولا يعنيه مباشرة في حياته اليومية حسب رؤيته للحياة، وهو مدرك أنه متفرج عن بعد على صناعة التاريخ، لكن لا يؤثر في مساره. فالوضع في الكثير من الدول العربية ممتاز من ناحية المظهر الخارجي للتطور والخطوات الإيجابية نحو تنمية مادية أو تقنية حقيقية ربما ينقصها الكثير كتنمية روحية، ثقافية أخلاقية أو قيمية، حيث إن الداخل لدى أعداد كبيرة بيننا لا يزال في غاية الهشاشة فأحدث ثقبا في برمجة العقل العربي الفاقد لحريته، والذي يفكر بعقل غيره محوري لوقف موجة تأصيل التراجع والإنغلاق الحضاري والجبن التشكيكي في المعرفة المنقولة، وترتيب أولويات المعرفة والدفاع المستميت عن التاريخ، وجعله نسقاً فكرياً والاعتماد على الملهم الكاريزماتي أو قلة، لقيادة عجلة التقدم أو التنوير مما جعل العقل العربي متلقياً للحقيقة، وليس باحثاً عنها وناقداً لها، كون المجتمع يخشى إحداث قطيعة مع تقاليده وعاداته السلبية لارتباطها بقيمة جماعية تمس جمهرة العقل وتحييد الوعي، وبالتالي ربطه بالهوية والثقافة، وتقدير الذات، ويقابل كل ذلك تقلص قداسة الإنسان أمام مقدسات الآخر بين عقل فاعل وعقل منفعل. وهذا يقودنا بدوره لضرورة الاقتناع بأن من لا يقرأ من خلال لغة أجنبية ويفكر بمنهجية تناسب عصر الانفجار المعرفي الكبير سيصبح ناقص التكوين الفكري كون العلوم محتكرة من الغير، وهي أحد أسباب الوهن الذي أصاب اللغة العربية واستخداماتها. فالعقل النقدي هو من حرر العالم المتقدم، ولا يزال النقد أهم قيمة في دول العالم المتقدمة، ويصحب ذلك النقد طرح الحلول والبدائل للخروج من الخلل وتطعيم العقل لبناء مناعته ضد الاعتيادية والسكون. فمتى ما انتظرت الأمم الحصول على المعرفة الجاهزة من الغير وغلب استهلاكها على إنتاجها وتصنيعها وهمشت العلوم الإنسانية والاجتماعية حدث الجمود وتأخرت مسيرة النهضة. ففي عالمنا العربي يعيش الفرد طوال عمره يُشحن ضد الآخر، وهو مهووس بنظرية المؤامرة والتطبيع، مع إحتلال الموروث للعقل وعسكرته للشعور بالأهمية الزائفة، ولذلك العرب ضمن أكثر شعوب العالم تعصباً للعرق والمذهب، وأقلهم تسامحاً. فترى مثلاً مسألة المساواة بين الرجل والمرأة كأكبر كذبة تعيشها مجتمعاتنا، فكيف نقول مساواة ونحن نفخر بأننا أعطيناها بعض حقوقها تفضلاً ويعتبرها الرجل مهما كبرت إنسانا يحتاج للرعاية والتوجيه من المهد إلى اللحد، ومصدر تهديد دائما لفقدان الشرف، وكأن الشرف ليس قيمة جامعة للرجل والمرأة وغيرها من المسائل التي تغيب العقل البشري وتقسمه، وتصنفه لأنواع تقود لفصل المجتمعات وتحويلها لطبقات، فالإنسان ابن بيئته الأولى بالرغم من التجارب التي يمر بها، فالسفر والقراءة وغيرها من التجارب برمجة سطحية غير تلقائية تغلب عليها خبرات وتعلم مكتسب من مرحلة الطفولة. والبيئة المحيطة ومختلف المسوغات والتبريرات لتعظيم مركبات الثقافة الشعبية السائدة التي تكرس سطوة المجتمع، الذي يرفض أن يتحرر الشخص من المسارات الموجودة في المجتمع ويبني مساره الشخصي. فالعالم العربي مريض بداء المكانة الاجتماعية والفخر والانتقائية في الروئ وانفصال الفكر عن الواقع، حتى نكاد أن نصبح عبئاً على العالم، فبسبب شرذمة من مخرجات بعض جزئيات ثقافتنا، فقد العالم حرياته وممارساته حتى يحمي نفسه من شرور مثل الإرهاب وربط الأخلاق بعلاقة الرجل بالمرأة، وهو تزييف للواقع الإنساني. فنحن نعيش في دوامة السجالات التي تحجب المسائل الحقيقية والضياع بين السلفية والتبعية ومظلومية أن العصر الذهبي قد ولى، ولن يرجع بينما الغير يرى أننا في بداية عصر ذهبي قادم سيغير مفاهيم كونية كثيرة، بينما نحن عالقون بين الماضي والمستقبل، وهو سبب جوهري من أسباب التأخر الحضاري لدينا، وسبب مهم لمعالجة ثقافاتنا وإعادة تأسيس جذورها قبل قشورها فمتى سنتوقف عن محاربة التغيير الحتمي، ونعت من يريد منا مواكبة ثورة العقل المعاصر بالمتفلسف، وبأنه ليبرالي وعلماني، وأوصاف تؤكد أن الوصاية ستظل قائمة على العقل العربي لكثرة المستفيدين من فرض الوصاية والعقل المشكل مسبقاً. فالبيئة الذهنية التي تصوغها الثقافة لا يغيرها التعليم، الذي لا يهب الشخص ممكنات نقد نظرته للمألوف وإدراك وتمحيص وتفنيد موقفه من المختلف والمشابه بداية بثقافته.