لا يمكن الحديث عن سنغافورة دون التوقف أمام سيرة «لي كوان يو» الذي رحل عنا مؤخراً، فهو مؤسس سنغافورة الحديثة، ومهندس نهضتها الجبارة، ومصمم معجزتها الخلاقة، وهو الذي حّولها من مجرد مستنقع يتكاثر فيه بعوض الملاريا، وبلد نام متخلف، إلى واحدة من أكثر دول العالم تقدماً وازدهاراً ونظافةً، بل إلى أهم مركز تجاري ومالي في العالم، وثالث أكبر مكان في العالم لتكرير النفط. وهو الذي جعل اقتصادها ينتقل من الاعتماد على عائدات القاعدة العسكرية البريطانية، إلى الاعتماد على عائدات الصناعة والتصدير، والخدمات المصرفية، ورسوم خدمات الاتصالات، بفضل ما امتلكته البلاد في عهده لأنجح شركات الطيران، وأفضل المطارات، وأنشط الموانئ البحرية وشركات الشحن والمناولة في العالم بأسره. وهو الذي كان بسياساته الحصيفة وحكمته وعقلانيته وحسن تدبيره، وبعده عن الشعارات الطنانة والمماحكات، وراء وصول متوسط دخل الفرد السنغافوري إلى 30 ألف دولار أميركي مرتفعاً من 435 دولاراً في الستينيات، وقفز الناتج المحلي من ملياري دولار في 1960 إلى 86.8 مليار دولار في 2002، وقفز الاستثمارات الأجنبية من 5.4 مليار دولار في الستينيات إلى 109 مليارات دولار في 2005، وتقديم أفضل الخدمات الصحية، والتعليمية، والإسكانية، والاجتماعية، والإدارية لمواطنيه من خلال سياسات تحديد النسل بشكل حازم تحاشياً لحدوث الانفجار السكاني، وبرامج تعميم التعليم المتطور المواكب للعصر، واعتماد معايير جديدة وخلاقة في تدريب وتوظيف كوادر جهاز الخدمة المدنية، واستنباط أساليب متقدمة لمكافحة التسيب وهدر المال العام والفساد، وتطبيق قرارات متشددة حول البيئة والنظافة والأمن الداخلي. ولعل أفضل ما كُتب عربياً عن الرجل هو ذلك الذي خطه اللبناني «مارون بدران»، في عرضه لكتاب «لي كوان يو: حكاية فرد صنع تاريخ دولة»، حيث قال (بتصرف): «إن لي كوان يو الذي عاد من جامعة أوكسفورد إلى بلاده، كان يحلم بأن يبني وطناً للناس، وليس وطناً له. لذا بنى المصانع لا الإذاعات. وأمر الناس بالعمل، لا بالإصغاء إلى الإذاعة. ومنع التجمع إلا للصلاة. وأغلق السجون ليفتح المدارس. وأقام في آسيا نموذجاً مناقضاً للنموذج الماوي. ولم يسمح للمذابح التي ارتكبت في إندونيسيا بالتسرب إلى بلاده. وطبّق حكم القانون، لكنه لم يحّول بلاده إلى سجن تطعم فيه الفئران كوجبات دسمة، كما لدى جارته البورمية». حينما منحها البريطانيون الحكم الذاتي في 1959 كان من قبيل التحديات الصعبة إقامة دولة كسنغافورة الحالية بسبب فقرها المدقع. فالجزيرة، التي أسسها السير «ستامفورد رافلز» عام 1819، كانت مجرد قرية للصيادين خالية من الموارد والمرافق، وفيها قاعدتان عسكريتان، ويسكنها خليط من المهاجرين غالبيتهم أتوا من الصين، والباقي من ماليزيا والهند وسريلانكا وحضرموت. غير أن «لي» الذي آلت إليه مقادير الأمور آنذاك نجح في تشكيل خليط سحري من آداب الماضي وآفاق المستقبل. وكان قبل أي شيء حريصاً على الكرامة البشرية، فحارب الفقر بالدرجة التي عارض فيها نفوذ الصين «الماوية». وجعل لكل مواطن بيتاً بدل أن يكون لكل ألف مواطن كوخ. وكان رحيل المستعمر من المنطقة نذيراً بحدوث فوضى عارمة وبتمدد الخطر الشيوعي، وهو ما لم يترك خياراً أمام «لي» سوى الانضمام إلى الاتحاد الماليزي عام 1963. إلا أن هذا الاندماج لم يعش طويلًا، بسبب إصرار سكان الملايو المسلمين على احتواء سنغافورة دون مراعاة وجود غالبية صينية بوذية فيها، الأمر الذي تسبب في صدامات عرقية بين الصينيين والملايو كانت كفيلة بخروج سنغافورة نهائياً من الاتحاد في 9 أغسطس 1965 وهو تاريخ استقلالها. يقول «لي»، الذي بدأ حياته السياسية شيوعياً متزمتاً وأنهاها، وهو على رأس نظام رأسمالي نموذجي في كتابه عن تلك المرحلة: «بعد الانفصال مباشرة توليت منصب رئيس الحكومة، وكل شيء حولي ينذر بالانهيار؛ فنسبة البطالة تقارب 15% والخزينة فارغة، والقوة العسكرية مؤلفة من كتيبتين ماليزيتين، والبنية التحتية متخلفة للغاية، وقوات الشرطة لا وجود لها من الناحية العملية، والمدارس والجامعات لا تفي بالحاجة، والغليان العنصري والديني يهدد بالانفجار في أي لحظة، والتهديد الخارجي مستمر، وكانت ماليزيا تنتظر فشلنا على أحر من الجمر لتستخدم القوة لإعادتنا إلى حظيرتها». وقتها كانت عملية بناء الجيش وقوات الشرطة من الأولويات التي فرضت نفسها على «لي»، وذلك من منطلق أن الأمن والاستقرار مقدمة وشرط للبناء وجذب الاستثمارات. بعدها راح يركز على السياحة، وتشجيع بناء المصانع الصغيرة، خصوصاً مصانع تجميع المنتجات الأجنبية، وذلك على أمل البدء بتصنيع بعض قطعها محلياً. وفي هذا السياق يشير الرجل إلى نقاط مهمة تصلح لأن تكون دليلاً ومرشداً للدول الحالمة بالصعود فيقول :«عرفنا الكثير من الفشل سواء بسبب نقص الخبرة أو بسبب عدم الحصول على الاستشارات الصحيحة. وكلفنا ذلك الفشل غالياً، لكننا استفدنا من الدروس المكتسبة، وعملنا كي لا نقع في الخطأ مرتين». ويضيف: «اخترنا دائماً الفرد أو العنصر الأفضل لأي مهمة أو واجب، مهما كانت انتماءاته أو أصله أو دينه، كنا نهتم بالنتيجة فقط، وكنا نعلم تماما أن فشلنا يعني حروباً أهلية واندثار الحلم».