كانت الأنظار موجَّهة إلى ما يحدث في العراق من خرابٍ وتخريب للدولة والمجتمع، بين عامي 2003 و2006، بينما كانت أحداثٌ مُشابهة جاريةً في بلدانٍ عربيةٍ أُخرى. ففي لبنان قُتل رفيق الحريري عام 2005، وشنّ «حزب الله» حرباً على إسرائيل قال إنه انتصر فيها، واتخذ ذلك ذريعةً لاحتلال بيروت بالسلاح عام 2008. وجرى تقسيم النضال الوطني الفلسطيني بالاستيلاء من جانب «حماس» (وبمساعدة إيران والنظام السوري) على غزة. وعندما ظلّت الاغتيالات تتوالى بلبنان، والمذابح تتوالى بالعراق، بدأ الحديث عن الفتنة السنية الشيعية، وعن قهر أهل السنة بالعراق وتهجيرهم. وكنا جميعاً مترددين في قَبول الشائعات عما يحدث بالعراق وبسوريا وبأفغانستان، وكنا نلجأُ إلى العقل والحسابات السياسية(!). فما هو صالحُ إيران، التي تكاد تستولي بالقوة على العراق ولبنان، إضافةً إلى تحالفها «الاستراتيجي» مع الأسد؟ وما حاجتُها لتشجيع التشييع في عدة بلدان، والتهييج الطائفي في العراق وسوريا ولبنان؟ ثم قرأتُ عام 2010 كتاب ديبورا أموس عن المذابح والتهجير الطائفي بالعراق. فقد قامت أموس ببحوث ميدانية في كل من سوريا والأردن والعراق وتركيا ولبنان والمنطقة الكردية. هناك قابلت مئات العائلات العراقية المهجَّرة والمذبوحة، وبين هؤلاء عشرات المسيحيين العراقيين. وقد انقسم الوعي لدى المهجرين، فقسم كبير منهم كان لا يزال مقتنعاً بأن التهجير ليس مقصوداً، بل ناجم عن الفوضى. بل إنّ قسماً من هؤلاء كان يذهب إلى أن المذنب في ذلك هو «التمرد» السني، كما كان الأميركيون يسمونه! بينما رأى فريق أن القتل للإرهاب والتهجير هو خطة مقصودة، بدليل التهجير من بغداد بالذات، والتهجير من المناطق المتنازَع عليها من جانب الأكراد. وبدليل إعادة إنشاء الجيش وقوات الأمن من الشيعة وحدهم تقريباً. وعندما كانت أموس تردّ بأنّ الزرقاوي لم يقصّر، كان مقابلوها يقولون: لكنّ الزرقاويين أتوا من سوريا، والمقصود بهم اعتبار السنّة إرهابيين والإيرانيين بنّائين! ثم فاحت رائحة المالكي والأسد وسليماني ونصر الله بعد عام 2011، وصار الجميع يتحدث عن التكفيريين وعن حماية مزارات أهل البيت، وفي القصير والقلمون حيث لا مزارات لأهل البيت! وكما أخمدت مذابح الزرقاوي من قبل كل صوتٍ يستنكر الإرهاب الطائفي من جانب إيران وميليشياتها، فإن فظائع «داعش»، توشك أن تُخمد الحديث عن الجرائم الطائفية بديالى ونينوى وجرف الصخر وأمرلي والآن في تكريت! وللمرة الأُولى منذ أكثر من عقد، يحاول طرف عربي التصدي لانهيار المجتمعات والدول أمام الميليشيات الإيرانية والمتأيرنة. والذين يقاتلون من أجل استعادة الدولة باليمن، هم أنفسهم الذين يقاتلون لاستعادة العراق وسوريا من «داعش». ومع ذلك، فإن وسائل الإعلام الإيرانية والموالية لإيران، مصرَّة على أن «السنة» هم الذين يهاجمون الشيعة الآن باليمن! وما من أحد يتذكر أن ثلاثة أرباع اليمنيين من السنّة الشافعية، وأن الحوثيين هم الذين خرجوا بميليشياتهم المسلحة من صعدة على اليمنيين جميعاً، فهدموا الدولة، واستولوا على المؤسسات، وقتلوا ويقتلون الناس في مناطق شاسعة ليس فيها زيدي واحد! هناك إحساسات طائفية لدى أُناس كثيرين من الطرفين. وسببها استنزافات العقد الماضي: الغَلَبة والشعور بالانتصار من جانب إيران وميليشياتها، والغضب والشعور بالاستضعاف والاستهداف من جانب أُناس عديمي الحيلة في العراق وسوريا ولبنان واليمن! ولنمض إلى الوقائع على الأرض والسكان. لدينا عشرة ملايين سوري مهجر 90? منهم سنّة، وخمسمائة ألف قتيل 80? منهم سنّة. وفي العراق هناك مليونان ونصف المليون مهجر منهم مليونان من السنّة. أما القتلى منذ عام 2003 فهم أكثر توازناً(!) بمعنى أن 60? منهم من السنة. ما العمل، لخفض التوتر، ومكافحة المشاعر والتصرفات الطائفية من الجانبين؟ في النهاية، هذه دول ومجتمعات ولا تغييرات بالحدود، ولابد من التصالح والتوافق. إنما لكي يصغي الشاعر بالانتصار لدعوات التصالح، لابد أن ينكسر في مكان. ولذا فإنّ استعادة الدولة والأرض من الحوثيين باليمن، ضرورية لاستعادة التوازُن في سوريا والعراق، وعلى طاولة المفاوضات المقبلة إذا حصلت، بين العرب والإيرانيين.