مع كتابة هذه الأسطر، يدخل اليمن دورة عنف جديدة وهو البلد الذي أهدى للعالم قصة سبأ والسد العظيم، وبناء أولى ناطحات سحاب العالم القديم، وزراعة القهوة التي استبدلها بالقات المقيت! وتعود قصة زرع أشجار القهوة في جزر البحر الكاريبي إلى الملك لويس الرابع عشر الذي تلقى شجرة من نوعها للمرة الأولى هدية من الشرق الأقصى، وكانت هذه الشجرة قد نقلت من مدينة ميخا اليمنية، وأخذت الموكا اسمها منها، حينما نقلها الهولنديون إلى جزيرة جاوة في إندونيسيا التي استعمروها يومها. تقول الرواية: إن الشجرة زرعت في الحديقة الملكية عام 1714 وبعد سنوات قليلة جاء ضابط فرنسي هو جابريل دو كليو من جزر المارتينيك فطلب من الملك شتلة من الشجرة فرفض طلبه؛ فتسلل الضابط سراً إلى الحديقة، وسرق النبتة، وهرب بسرها إلى جزيرة بحر الكاريبي، وهناك قام بزرع الشتلة في تربة مناسبة، وفي خمسين عاماً انتصبت 18 مليون شجرة. ولكن السؤال: من الذي اعتنى بهذه الشجرة ونمَّاها إلى الحد المليوني؟ والجواب إنهم الأرقاء. فكما سرقت الشتلة من حديقة الملك، فإن البشر بدورهم كانوا يسرقون من أحضان أهلهم، وإلى سلاسل الاسترقاق يقرنون. وكانت فرنسا لوحدها تورد كل سنة ثلاثين ألفاً من الأرقاء المسروقين من بلادهم إلى الأرض الجديدة، فيموت نصفهم في الطريق، ليشتغل الباقون ويكدحون كل عمرهم في مزارع البن في المستعمرات الفرنسية، والقهوة ربما تأتي بعد البترول في القيمة العالمية. واستمرت فرنسا طوال قرنين تمارس هذه العادة الجهنمية، حتى تمرد الأرقاء في جزيرة هايتي، وخلعوا عن أكتافهم نير الاستعمار في عام 1791. وخلال قرنين كان قد وصل إلى البرازيل أكثر من ثلاثة ملايين مستعبد، مسروق للعمل في حقول القهوة، وخمسة ملايين في مزارع السكر. واليوم يمتلك في البرازيل 10% من السكان 55% من ثروة البلاد، في الوقت الذي يعيش السود في الفقر المدقع. وهكذا فإن الحرب والرق أمران متلازمان كما يقول المؤرخ البريطاني توينبي، وهما أسوأ مرضين ابتليت بهما البشرية، ولكن الحرب ما زالت تندلع، وهي قمة الجنون، فكيف نفهم الأمر؟ في الواقع إن مبررات الحرب انتهت، فكما ألغي الرق، فقد ماتت مؤسسة الحرب، ولكن الكثير من الناس لم يتفطنوا لما حدث فيدفعون ثمن جهلهم وغبائهم وعدم اطلاعهم على مجرة التاريخ، واليوم انتهت الحرب في شمال الأرض على امتداد خط واشنطن- موسكو، ولم تعد تشن إلا بين الشعوب الأخرى، على امتداد محور طنجةـ جاكرتا، بمصطلحات مالك بن نبي، وهناك أماكن استعصاء عدة في العالم يمكن معالجتها دون ضحايا إنسانية، وعلى أن يكون آخر العلاج الحرب.