في الرابع والعشرين من الشهر المنصرم، لقي 150 شخصاً حتفهم، بينهم عدد لا يستهان به من الأطفال، عندما اصطدمت طائرتهم عن عمد، بقمة إحدى جبال الألب الفرنسية، وبسرعة 700 كيلومتر في الساعة، لتتناثر أشلاؤهم على مساحة عدة كيلومترات، حيث لم يتسن للسلطات الفرنسية العثور على جثة واحدة مكتملة. ورغم أنه أصبح معروفاً ومؤكداً، أن سبب الحادث لم يكن عطلاً فنياً، أو سوءاً في الأحوال الجوية، وإنما رغبة مساعد الطيار في جعل طريقة انتحاره صدمة للبشرية جمعاء، وتحويل يوم قتله لنفسه يوماً فارقاً في تاريخ القتل الجماعي، إلا أن هذه الفاجعة دفعت بالحالة الطبية المعروفة بالاكتئاب الشديد المصحوب بميول انتحارية إلى مركز اهتمام المختصين، ليس فقط من الأطباء وعلماء النفس، وإنما أيضا من المسؤولين عن إدارة وسائل المواصلات والنقل الجماعي، أو غيرها من أشكال التكنولوجيا الحديثة، التي يمكن لمن يقودها أو يشغلها، أن يتحول إلى سفاح، يقتل المئات، وربما الألوف، في حالة ما اختلت قواه العقلية، وفقد توازنه النفسي. وقبل أن نتطرق لاضطراب الاكتئاب الشديد، سواء كان مصاحباً بميول وأفكار انتحارية أم لا، يجب أن نتوقف قليلاً عند وضع الصحة العقلية، وأمراضها واختلالاتها، من المنظور العالمي، بناء على البيانات والإحصاءات التي تشير إلى معدل انتشار واسع لمثل هذه النوعية من الاضطرابات. حيث يقدر مثلاً أن الاكتئاب وحده يصيب نحو 400 مليون شخص حول العالم، وبمعدلات أعلى بين النساء مقارنة بالرجال، بينما يصيب الهوس الاكتئابي، أو الاضطراب ثنائي القطب، نحو 60 مليوناً آخرين. وعلى المنوال نفسه يصيب الفصام، وبقية أنواع الذهان الأخرى، 30 مليون شخص، أما العتَه والخرف فيقدر أنهما يصيبان حاليا 35 مليون شخص، وهو العدد الذي يتوقع له أن يزداد باطراد خلال العقود القادمة، مع تزايد ظاهرة شيخوخة المجتمعات. وإذا خصصنا بالحديث الاكتئاب من بين أنواع الاضطرابات العقلية المختلفة، والذي يصيب 400 مليون شخص حول العالم، سنجد أنه يعتبر سبباً رئيسياً من أسباب الإعاقة الصحية، وبقدر أكبر من الإعاقة التي يسببها السكري، أو التهاب المفاصل، أو الأزمة الشعبية، أو حتى الذبحة الصدرية. وإذا ما ترافق الاكتئاب مع مرض مزمن، مثل الأمراض سابقة الذكر، فيتضاعف حينها المقدار الكلي للإعاقة في حياة المريض، وأحياناً ما يتخطى تأثير الاكتئاب مدى الإعاقة البدنية والنفسية، ليصل إلى درجة الوفاة المبكرة، من خلال الانتحار. ففي كل عام، ينتحر نحو 800 ألف شخص، 86 في المئة منهم في الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل، على عكس الاعتقاد الشائع بأن الانتحار يحدث بشكل أكبر بين سكان الدول الغنية، وعلى رغم أن أسباب الانتحار تختلف بشكل كبير، إلا أن الأمراض النفسية والعقلية دائما ما تحتل مواقع متقدمة في قائمة أسباب الانتحار. وبخلاف أسباب وأساليب قتل النفس المختلفة، أحياناً ما يأخذ الانتحار شكلاً غريباً ومحيراً، يعرف بالانتحار-القتل (Murder-Suicide)، أي مزج الانتحار بقتل أشخاص آخرين. هذه الشكل غالباً ما يحدث في ظروف أسرية أو عائلية، بين الأزواج، وقد يقع الأطفال ضحاياه أحيانا. ولكن على العكس من ذلك، في حالة الطيار الألماني، وغيره من الحالات، كان ضحايا القتل المصاحب للانتحار، غرباء تماما عن المُنتحر، حيث كانت لا توجد أية علاقة شخصية بينه وبينهم، أو حتى معرفة سطحية. ويعتبر تفسير مثل هذه الحالات صعب جدا، حيث لا يوجد نمط أو نسق واحد بين حالات الانتحار-القتل التي كان ضحاياهم من الغرباء، كما أن المنتحر في هذه الحالات لا يترك وراءه تفسيراً أو شرحاً، لرغبته في إنهاء حياة أشخاص آخرين غرباء تماما عنه، وبشكل عشوائي، عند لحظة إنهائه لحياته. ولكن وإن كانت الأسباب خلف حالات الانتحار المصحوب بالقتل، أو حتى الانتحار الفردي، عصية على الفهم في غالبية الحالات، فالواضح، ضخامة حجم مشكلة الاكتئاب، وما ينتج عنها من انتحار مئات الآلاف كل عام. وهو ما يؤكد مرة أخرى، ضرورة الاهتمام بالأمراض العقلية والاضطرابات النفسية، أو مجال الصحة العقلية بوجه عام، ضمن منظومة الرعاية الصحية الشاملة، مع التركيز على أهمية تنظيم وتفعيل الاستراتيجيات الوطنية والدولية الكفيلة بمنع الكثيرين من الانتحار، أو على الأقل خفض أعدادهم بشكل ملحوظ.