كان رئيس وزراء سنغافورة السابق الذي وافته المنية الأسبوع الماضي، «لي كوان يو» أكثر من «الوالد المؤسس» لبلده، ذلك أنه لم ينتشل بلداً فقيراً ينخره الفساد من المراتب المتدنية للعالم الثالث إلى دولة حديثة من دول العالم الأول في ظرف جيل واحد فحسب، بل كان أيضاً أحد أستاذين كبيرين في الاستراتيجية الدولية خلال النصف الأول من القرن (الآخر هو هنري كيسنجر). فلا أحد من خارج الصين كان لديه تأثير على الصعود السريع لهذا البلد حتى أصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم أكثر منه، ولا أحد من خارج الولايات المتحدة كان لديه تأثير على السياسة الأميركية تجاه الصين الصاعدة أكثر منه، من انفتاح ريتشارد نيكسون وكيسنجر على ماو تسي تونج في أوائل السبعينيات إلى «استدارة» الرئيس أوباما نحو آسيا. كما أنه عندما يتعلق الأمر بمساعدة اقتصادات وطنية أخرى على النمو وانتشال ملايين المواطنين من الفقر المدقع، فمن الصعب تحديد شخص كان لكلماته وأعماله تأثير أكبر منه بخصوص شرح ما تستطيع قيادة تتحلى بالكفاءة والنظافة والتصميم القيام به. ولعل الكلمات الأكثر إفادة وإثارة للاهتمام، وسط بحر الكلمات التي صدرت حول «لي كوان يو»، هي كلمات «لي» نفسه. ولهذا السبب تحديداً، قمتُ وزميلي روبرت بلاكويل قبل عامين بنشر كتاب يحمل عنوان «لي كوان يو.. أفكار ورؤى الأستاذ الكبير عن الصين والولايات المتحدة والعالم»، كتاب أنصح الجميع بقراءته بكل فخر واعتزاز باعتباره «كتاباً قيّماً» لأن كل ما فعلناه هو طرح الأسئلة التي نعتقد أن معظم الناس الذين لديهم اهتمامات دولية سيجدونها مثيرة للاهتمام. وتشكل أجوبة «لي» نحو خمسة وتسعين بالمئة من كلمات الكتاب. كان «لي» أول مراقب للشأن الصيني في العالم. وقد وصفه كل الزعماء الصينيين منذ دينج شياوبينج، بـ«المعلم»، بمن فيهم الرئيس الحالي شي جينبينج. وبالنسبة لكل من هو مهتم بمعرفة من أين جاءت الصين وإلى أين هي متجهة، فإن أفكار «لي» تمثل خير دليل ومعين. ولهذا، سألنا «لي» حول ما إن كان زعماء الصين الحاليون جادين في أخذ مكانة الولايات المتحدة باعتبارها القوة رقم 1 في آسيا في المستقبل القريب، فكان جوابه: «بالطبع، لما لا؟ كيف لا يمكنهم أن يتطلعوا إلى أن يصبحوا الرقم 1 في آسيا، وفي العالم مع مرور الوقت؟». ولئن أقر بأن الأداء السابق ليس مؤشراً على النتائج المستقبلية بالضرورة، فإنه وضع احتمال نجاح الصين في هذا المسعى عند 4 على5. وجواباً على سؤال حول ما إن كانت الولايات المتحدة تستطيع أن توقف صعود الصين، قال «لي»: «كلا، سيتعين عليها أن تتعايش مع صين أكبر، وهو ما سيكون أمراً جديداً على الولايات المتحدة، إذ لم يسبق لأي بلد أن كان كبيراً بما يكفي ليتحداها». غير أنه في حالة الصين، فإنها «أكبر لاعب في تاريخ العالم»، كما كان يقول في كثير من الأحيان. ومن جهة أخرى، لم يكن «لي» متشائماً بشأن الولايات المتحدة قط، وأتذكر هنا عدة حوارات معه حول ما إن كانت الولايات المتحدة في «تقهقر بنيوي». وفي هذا السياق، سألته في إحدى المناسبات قبل نحو عامين: لو كانت الولايات المتحدة سهماً، هل تعتقد أنه يجدر بنا بيعه قريباً؟ فأجاب على الفور: «كلا، بكل تأكيد». فقد كان يرى أن الولايات المتحد تجتاز مرحلة صعبة تتخللها حالات عجز وديون ورأسمال مختل، لكنه كان يراهن على استعادة الأميركيين للريادة مثلما فعلوا من قبل، وعلى عودة البلاد إلى الطريق التي جعلتها عظيمة. لكن، هل الحرب بين الولايات المتحدة والصين حتمية لا مناص منها أم أنه يمكنهما تجنبها؟ سؤال يذكّرنا بالتوتر الحتمي الذي يقع عندما تتعرض قوة حاكمة لتحدي قوة صاعدة تهدد بأخذ مكانها. فقبل قرن من الزمن، عندما صعدت ألمانيا إلى الواجهة لتنافس بريطانيا، كانت النتيجة هي الحرب العالمية الأولى. وقد كان «لي» يدرك التحدي والأخطاء التي ينطوي عليها ذلك، لكنه كان متفائلا بشأن قدرة الزعماء على التعلم من التاريخ، ومن الأخطاء التي ارتكبها رجال دولة سابقون في مسعاهم لإيجاد طريق أفضل. واليوم، وبينما نرثي زعيماً كبيراً رحل عنا، يمكننا أن نكون ممتنين لأنه ترك لنا الكثير من الأفكار والرؤى التي يمكن أن تلهمنا. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون نيوز سيرفس»