في عام 1971، ذهبت إلى بيروت بتكليف من جامعتي لإجراء أطروحة الدكتوراه حول ظهور الوعي القومي الفلسطيني. ولأن الأشخاص محل دراستي كانوا فلسطينيين في مخيمات اللاجئين بلبنان، توجهت إلى عين الحلوة لإجراء حوارات مع عدد من الأسر، وتوثيق قصصهم. وفي منتصف الطريق للقيام بعملي الميداني، أجريت مناقشة مع الروائي غسان كنفاني، أدت إلى حدوث تغير جذري في طريقي؛ إذ أخبرني غسان بأنني كنت أبحث في المكان الخاطئ. وكانت القصص التي جمعتها مهمة ومفيدة، ولكنه أشار إلى أن رد الفعل تجاه صدمة النزوح وصعوبة المعيشة في المخيمات، أدى إلى تجمد وعي الأسر التي حوصرت في دوامة الزمن، وتسعى إلى إعادة إنشاء هياكل حياة القرية في محاولة للحفاظ على ما فقدوه. وأوضح أن القصة المهمة كانت تتكشف داخل إسرائيل بين العرب الذين ظلوا هناك بعد عام 1948. وقد كانوا هم الأكثر إثارة للاهتمام، والجزء المتقدم سياسياً من المجتمع الفلسطيني. وأصرّ على أنه في يوم ما، ربما يتولون هم قيادة الطريق. وقال غسان: «إن هؤلاء الفلسطينيين هم الذين يطورون وعياً جديداً»، ولتوضيح رأيه أطلعني على أشعار محمود درويش وتوفيق زايد وسامح القاسم. وعند قراءتها، أذهلني حبهم لأرضهم، ومقاومتهم للجهود الإسرائيلية الرامية إلى سلب تراثهم، وجرأة تحديهم للقمع الذي اضطروا لتحمله. وغيّرت تركيز أطروحتي وعنونتها: «العرب في أرض الميعاد: ظهور الوعي القومي الفلسطيني بين العرب في إسرائيل من 1948 إلى 1967»، واحتفظت بولعي بهذا المكون الأساسي من الشعب الفلسطيني حتى يومنا هذا، وهكذا تابعت واحتفلت بالانتصار الكبير الذي حققته «القائمة المشتركة» التي ضمت الأحزاب العربية الموحدة في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة. وعلاوة على ذلك، أثارتني الخطوات الشجاعة المبكرة التي اتخذتها لتعزيز الثقة التي منحها لها الناخبون، بداية من رفضهم القاطع لجهود بنيامين نتنياهو العقيمة للاعتذار عن استخدام عرب إسرائيل كـ «طعم» لتحريض الناخبين اليمينيين للخروج في يوم الانتخابات، إلى الدعوة المذهلة من زعيمهم أيمن عودة، لحشد مظاهرات سلمية إلى القدس من أجل تحدي خطة الحكومة الإسرائيلية نزع ملكية وإعادة توطين مائة ألف بدوي عربي من النقب بالقوة. ومع حصولها على 13 مقعداً في الكنيست المقبل، تعتبر القائمة المشتركة في الوقت الراهن ثالث أكبر حزب في إسرائيل، وفي ضوء نجاحها، تتجه الأحزاب العربية إلى تحقيق مزيد من القوة خلال الأعوام المقبلة. وستظل الأحزاب العربية الممثلة للمجتمع العربي، الذي يمثل خمس السكان في إسرائيل، حسب كلمات كان قد كتبها توفيق زايد، مركز ثقل كبير في قلب الدولة التي تسعى لمنعهم من الحصول على حقهم الشرعي في البقاء على أراضيهم. ولم يأت نجاح المواطنين العرب الفلسطينيين داخل إسرائيل سهلاً. فبعد عام 1948، عندما كان الإسرائيليون يحتفلون بما وصفه بن جوريون بـ «معجزة مزدوجة» للدولة التي كانت عربية وبات بها عدد قليل من العرب، واجه 160 ألف عربي مكثوا داخل دولة الاحتلال صعوبات شديدة. وعلى مدار العقود الأولى من إنشاء إسرائيل، مُنع هؤلاء العرب من الحق في تشكيل حزب مستقل. وعندما أسس بعض الشجعان «حزب الأرض»، تم اعتقالهم وطردهم. ومنع العمال العرب من الانضمام إلى اتحاد العمال الإسرائيلي على أساس أنه كان فقط للعمال اليهود. وفي ظل «قوانين الدفاع الطارئة»، تمت مصادرة الأراضي التي يمتلكها العرب، وخضعوا إلى محاكمات عسكرية قاسية، تضمنت حظر تجول وعقوبات جماعية واعتقالات اعتباطية وعمليات طرد عاجلة. وعلى مدار السنين، أشار القادة الإسرائيليون إليهم على أنهم «أجانب» و«غرباء»، و«سرطان في وسطنا»، و«قنبلة ديموغرافية موقوتة». ولكنهم في الحقيقة «يخضعون للاحتلال في دولتهم». وفقدت مدن عربية مثل «الناصرة» السيطرة على الأراضي القريبة منها التي كانت مصدر قواتها، والتي تم استخدامها في بناء مجتمعات لليهود فقط. وبسبب القوانين العنصرية التي فرضها الصندوق الوطني اليهودي، لم يستطع العرب شراء أو استئجار أي من هذه المستوطنات الجديدة. ومع نضوج العرب وتنظيمهم، تمت معاقبتهم على جهودهم المبذولة. ولأن الحزب الوحيد الذي قبلهم كأعضاء كاملين كان الحزب الشيوعي، انضموا إليه، وحولوه إلى حزب قومي بديل. وفي سبعينات القرن الماضي، عندما انتخب عرب الناصرة توفيق زايد عمدة لهم، عاقبتهم الحكومة بقطع التمويلات الحكومية عن بلدية الناصرة. وفي مواجهة خسارة هذه الموازنة، نظم «توفيق» معسكرات شبابية دولية، ورحب بآلاف المتطوعين من أرجاء العالم كافة في المدينة للمساعدة في تنفيذ مشاريع الإنشاء، وحملات النظافة، وتوفير الخدمات الأخرى الضرورية. وظل المواطنون العرب الفلسطينيون يحاربون من أجل حقوقهم على مدار 67 عاماً، واستمرارهم في إحراز تقدم في نضالهم يمنحني الأمل. ومع اقترابنا من «يوم الأرض» خلال العام الجاري، علينا أن نتابع ذلك المجتمع الجدير بالاهتمام، وهو يواصل طريقه إلى الأمام.