بالإضافة إلى الصراعات السياسية المحتدمة في العالم، تدور على أكثر من صعيد صراعات اقتصادية لإعادة تقاسم النفوذ، والمشاركة في إدارة المؤسسات المالية الدولية متعددة الأطراف، والتي خضعت للهيمنة الأميركية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وأشرنا في مقالات سابقة إلى مثل هذه المؤسسات، كبنك مجموعة «بريكس» العملاق برأس مال 100 مليار دولار، في حين أعلنت الصين العام الماضي عن نيتها لتأسيس بنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية برأس مال 50 مليار دولار، مما أثار حفيظة واشنطن التي مارست ضغوطاً كبيرة على مختلف البلدان لمنعها من المساهمة في تأسيس هذا البنك الذي رأت فيه منافساً قوياً لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير الخاضعين لها. ويبدو أن مخالب النمر الأميركي قد قلمت إلى حد بعيد، إذ لم يستجب أحد لهذه الضغوط والتهديدات، بما في ذلك من هم في تعداد أقرب حلفائها، كبريطانيا التي أعلنت عن نيتها للمساهمة في البنك الجديد، إضافة إلى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، ناهيك عن الهند وسنغافورة وبعض دول مجلس التعاون الخليجي، كالكويت التي وافق مجلس وزرائها على عملية الانضمام لتأسيس هذا البنك ليبلغ عدد البلدان المشاركة حتى الآن 21 دولة. ومع أن وزير المالية الصيني «لو جي وي» حاول تطمين الولايات المتحدة قائلاً، «إن البنك الجديد لن يمثل تهديداً للمؤسسات المالية الأخرى، بما فيها البنك الدولي» إلا أن قبضة واشنطن ستضعف من دون شك، على المؤسسات الدولية متعددة الأطراف، وما يتبع ذلك من تداعيات سياسية واستراتيجية واقتصادية مؤثرة. وبلدان العالم التي وافقت على المشاركة في عملية التأسيس لبنك «التنمية الآسيوي بقيادة الصين لا تلام في ذلك، فالممارسات الأميركية على الصندوق والبنك الدوليين خلال سبعين سنة ولدت استياء عاماً، ففي بداية الستينيات مارست واشنطن ضغوطاً هائلة لمنع هاتين المؤسستين من تمويل السد العالي في مصر لأسباب سياسية رغم جدوى المشروع الاقتصادية وأهميته للتنمية في مصر، إضافة إلى القيود ومعدلات الفائدة العالية، وشرط أن يكون مدير البنك الدولي أميركياً بغض النظر عن كفاءته، إذ ترأس البنك الدولي أصحاب مهن متعددة، آخرها طبيب وهو رئيسه الحالي. بدورها تعرف الصين تماماً ومن تجربتها الذاتية أن الطريق الصحيح للتنمية ينطلق من تطوير البنية التحتية، والتي من دونها لا يمكن الحديث عن تنمية حقيقية، وهو ما أكدته تجربة دول مجلس التعاون الخليجي إلى جانب التجربة الصينية، مما حدا بها إلى تأسيس هذا البنك المتخصص في تمويل وتنمية مشاريع البنية التحتية في البلدان الآسيوية، ومن ثم بقية بلدان العالم متى ما توفرت الظروف الخاصة بذلك وفق تصريحات وزير المالية الصيني. وإذا أعلن عن تأسيس هذا البنك بصورة رسمية مع نهاية العام الجاري، كما هو مخطط له وبمشاركة الكثير من الدول، فإن دعماً كبيراً سيقدم لمرافق البنية التحتية في الدول الآسيوية، والتي هي بحاجة ماسة إليها، وبالأخص في البلدان الفقيرة مع تسهيلات وأسعار فائدة منخفضة. أما البلدان الغنية المشاركة، بما فيها الدول الغربية، فإنها لا تريد أن ترى نفسها بعيدة عن مثل هذا التطور في أسواق المال الدولية، وتقوده ثاني أكبر قوة اقتصادية تساندها بلدان سريعة النمو، كالهند ومراكز مالية مهمة، كسنغافورة. وبالتالي، فإن معارضة الولايات المتحدة منفردة لن تجدي نفعاً، كما أن مقاومة التغيرات الاقتصادية والاصطفاف الجديد للقوى لن يؤدي إلا إلى زيادة العزلة وفقدان الحلفاء، كما يحدث بالفعل، في حين أن الطريق الصحيح والعقلاني يتمثل في مد جسور التعاون وتقبل هذه التغيرات المعبرة عن الثقل النسبي للمستجدات الدولية، خصوصاً أن مؤسسي بنك الاستثمار الآسيوي أعربوا عن رغبتهم في مثل هذا التعاون.