تُوظّف المناورات العسكرية المصادر والإمكانات الحربية في عمليات قتالية معدة مسبقاً وغير حقيقية، إما لتدريب القوات، وأفرع الأسلحة المختلفة، مثل القوات البرية والجوية والبحرية، لتحقيق القدرة على العمل معاً في تناغم وتناسق، أو لفهم واستكشاف التأثيرات والتبعات، الناتجة عن العمليات الحربية على الأفراد والمعدات، أو لاختبار فعالية الخطط الاستراتيجية، وكفاءة العمليات التكتيكية في تحقيق أهدافها. وهذه الفلسفة نفسها، طالب مؤخراً الملياردير الأميركي، ورائد صناعة الكمبيوتر «بيل جيتس» بتنفذيها على المستويات الوطنية، والإقليمية، والدولية، ولكن في مجال مكافحة ومواجهة أوبئة الأمراض المعدية، ضمن ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح المناورات الصحية (Medical Games)، اشتقاقاً من المصطلح الذي يطلق أحياناً على المناورات العسكرية. وتتضمن فكرة أغنى رجل في العالم حسب التقديرات الأخيرة لمجلة «فوربس» ضرورة اتخاذ الخطوات التنسيقية، لتفعيل التعاون بين المصادر الطبية الدولية المتاحة وبين نظم الرعاية الصحية في دول العالم المختلفة، وبالاعتماد على الوسائل التكنولوجية الحديثة، في مواجهة أوبئة الأمراض المعدية، في شكل مشابه ومطابق إلى حد كبير، للمناورات العسكرية التي تشارك فيها عدد من الدول مجتمعة أحياناً. وإن كان على عكس المناورات العسكرية التقليدية، لا يجب الأخذ في الاعتبار في المناورات الصحية الاختلافات أو الخلافات السياسية، أو التحالفات الدولية، أو المواثيق الدفاعية، التي تحدد عادة من سيشارك، وأين ستجرى المناورات العسكرية. وكان «بيل جيتس» قد طرح هذه الأفكار خلال كلمته ضمن فعاليات مؤتمر «التكنولوجيا، والترفيه، والتصميم» (Technology, Entertainment and Design) السنوي الشهير، والمعروف اختصاراً بـ«تيد» (TED)، والذي يعتبر من أهم المنصات الدولية لطرح الأفكار الجديدة، والرؤى المختلفة، والاستشرافات المستقبلية، لأهم الشخصيات العالمية، وأكثرها شهرة، وربما تأثيراً في مسار الجنس البشري، في هذه اللحظة من رحلته على ظهر هذا الكوكب. وقد ذهب الرئيس السابق لشركة «مايكروسوفت» في طرحه هذا إلى مدى غير مسبوق، وهو الرجل الذي تعتبر رحلته المهنية نقطة فاصلة وعلامة محورية في تطور صناعة الكمبيوتر، وربما في تاريخ التطور التكنولوجي برمته، عندما طالب حكومات الدول بتخصيص المصادر لإنشاء ما يمكن أن نطلق عليه «الفيالق الطبية» (Medical Corps)، على نفس المنوال الذي يُنشأ به حالياً ما يعرف بالقوات الاحتياطية في الجيوش الحديثة، على أن تجهز وتدرب تلك الفيالق العسكرية كي تُفعّل، وتُطلب للخدمة، في مواجهة الأوبئة الطارئة. وتأتي هذه الأفكار، ومثلها من شخصيات أخرى مرموقة، بعد أن أظهر تتابع انتشار أوبئة الأمراض المعدية -خصوصاً الفيروسية منها- خلال السنوات القليلة الماضية، عدم اعتراف هذه النوعية من الأمراض بالحدود السياسية، أو بالحواجز الجغرافية، وعدم استثنائها فئة عمرية أو طبقة اجتماعية، وقدرتها على الانتشار بين الدول والقارات في غضون أيام، أو ساعات قليلة، وشراستها في الفتك بضحاياها، دون الأخذ في الاعتبار جنسهم، أو عرقهم، أو ديانتهم. وربما كان أقرب مثال على خطورة أوبئة الأمراض المعدية، وفداحة ثمنها الإنساني والاقتصادي، هو وباء فيروس الإيبولا، الذي يجتاح منذ بداية العام الماضي عدة دول في غرب القارة السمراء، وقد تسبب حتى الآن في قرابة 25 ألف حالة إصابة، توفي منهم أكثر من عشرة آلاف شخص، حسب آخر الإحصائيات. وبسبب هذا الوباء تعرضت منظمة الصحة العالمية لقدر لا يستهان به من الانتقادات لتباطئها في الاستجابة في المراحل الأولى لإيبولا. وفي الوقت نفسه، أثنى كثيرون على الجهود التي بذلتها منظمة «أطباء بلا حدود»، وخصوصاً سرعة استجابتها في الأيام والأسابيع الأولى للوباء، من خلال متطوعيها الموجودين أساساً على الأرض وفي خط المواجهة. ويعود الفشل الذي يراه البعض في أداء منظمة الصحة العالمية، إلى التركيب الهيكلي المميز لهذه المنظمة، التي أنشئت في أربعينيات القرن الماضي، بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها بأعوام قليلة. ويرى كثيرون، ومنهم «بيل جيتس»، أن العالم أصبح في حاجة لتركيب هيكلي، وإطار دولي للتعاون، واستراتيجية للتنسيق، مختلف عما تم الاعتماد عليه خلال العقود الستة الماضية. وخصوصاً بعد أن أظهرت الفصول الأخيرة من مسلسل أوبئة الأمراض المعدية، مدى عجز الهيكلة الصحية الدولية، وفداحة قصور التعاون الدولي في هذا المجال. ويستطرد هؤلاء، بتأكيدهم على أن أية استراتيجية، أو إعادة هيكلة، أو إطار جديد للتعاون الدولي، سواء في شكل مناورات صحية، أو فيالق طبية احتياطية، لابد أن يعتمد بشكل أساسي وجوهري على الاختراقات التي حققها قطاع التكنولوجيا، وخصوصاً في مجال شبكات الكمبيوتر والاتصالات المعلوماتية والهاتفية.