سبق للمفكر البحريني «محمد جابر الأنصاري» أن تساءل في كتاباته عن أسباب العطل السياسي العربي، أي أزمة العرب العميقة مع السياسة من حيث هي مجال تدبير الشأن الجماعي وفق أسس عقلانية ثابتة وناجعة. الإشكال مطروح بحدة في اللحظة الراهنة بعد أن انهارت بصفة مأساوية البناءات السياسية للدولة العربية الحديثة في عدد من أهم البلدان المحورية، وأظهرت مؤسسات الدولة عجزاً كاملاً عن احتواء صدمات التحول العنيف التي انجرت عن حركات التغيير والانتفاضات الأهلية الأخيرة. في قلب هذه الأزمة طرحت المسألة الدينية - السياسية بقوة في اتجاهين بارزين، يتعلق أحدهما بالمرجعيات الدستورية والقانونية الناظمة للمجال العمومي، ويتعلق ثانيهما بالعنف المتوحش الذي اتجر عن تنامي موجة التطرف الديني المسلح الذي أخذت في شكلها الجديد نموذج «الخلافة الشرعية» العابرة للحدود. في الحالتين ورغم اختلاف السياقات، يطرح مفهوم الشريعة إشكالات قوية، باعتباره المقولة المحورية في المستوين: مستوى المرجعية المعيارية الناظمة للبناء السياسي للدولة ومستوى القوة الدافعة للتمرد والخروج على الدولة باسم شرعية بديلة. في المستوى الأول، ينظر للشريعة كمدونة قانونية مصدرها إلهي تتعلق بها الشرعية الدينية للدولة، ومن ثم الأسئلة التي تطرح من حيث علاقتها بالمرتكزات الطبيعية والعقلانية للقانون في دلالته الحديثة، وفي المستوى الثاني ينظر للشريعة كبديل كامل عن نموذج الدولة الحديثة بحيث تصبح الشريعة في منطقها العميق إطاراً للقطيعة الراديكالية العنيفة والكاملة مع حالة سياسية واجتماعية عامة. في هذا الباب يتم عادة الاستشهاد بمفهوم «السياسة الشرعية» بديلاً عن «السياسة العلمانية» السائدة في الدولة الحديثة المتأثرة بالتجارب الغربية. والمعروف أن عبارة «السياسة الشرعية» ابتدعها «ابن تيمية» وحرفت دلالتها في أدبيات الإسلام السياسي في سياق توظيفها للأدبيات السلفية الكلاسيكية، بحيث غدت تعني مبدأ الخروج على شرعية الدولة الحديثة من منظور كونها دولة «جاهلية» أو «كافرة» لا تطبق « شرع الله». والمثير في الأمر أن مقصود ابن تيمية مغاير بل مناقض تماماً لهذا الفهم السائد، فالسياسة الشرعية تعني بالنسبة له ردم الهوة التي أقامها الفقهاء بين الشريعة من حيث هي إطار الشرعية والسياسة من حيث هي إطار الحكم الفعلي. لقد اعتبر فقهاء السُنة الكلاسيكيين أن نظام الحكم الشرعي هو الخلافة وإنْ أصبح غير قابل للتطبيق في الوقت الذي تعاملوا مع السلطة القائمة دون منحها الشرعية، بينما اعتبر ابن تيمية أن السياسة العادلة القائمة على العدل والمصلحة من مقومات الشرع حتى لو لم تتقيد بنص شرعي، وأن الخلافة وإنْ تميزت عن بقية أنظمة الحكم بشروط صورية نص عليها الفقهاء، فإنها ليست شكل الحكم الوحيد المقبول - وإنْ كان الأفضل- إذا روعيت المتطلبات الجوهرية في الدولة القائمة على مبدأ التعاون والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهكذا كما يبين «أوفامير أنجوم» ينقل ابن تيمية سؤال السياسة من السلطان إلى طبيعة السلطة، مخالفاً الفقهاء في ربطهم تقويم الحكم بخصال وفضائل الحاكم (التي هي أمور شخصية ونسبية)، كما يخالفهم في القول بولاية الفقيه على الأمة، باعتبار أن الأمة هي مصدر الشرعية وهي مستودع العصمة النبوية، لكن تعاليم الدين العامة بسيطة ومتداولة تدرك بالفطرة، أما الفقيه، فدوره تقني متمحور في المسائل الخلافية الدقيقة التي تتطلب التخصص. وعلى عكس التصور السائد بأن ابن تيمية هو فَقِيه التمرد والخروج على الدولة، نرى من خلال استعراض أقواله في السياسة الشرعية أنه فَقِيه الدولة الأول في التقليد الإسلامي، المدافع عن قوتها واستقرارها، وحتى سيادتها السياسية في مواجهة مطامح الفقهاء الذين اعتبر أنهم لا يحتكرون سلطة التشريع، ولاحق لهم في الولاية العامة على الناس. من هذا المنظور، لا بد من توضيح أن مبدأ النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يطالب به ابن تيمية في التعامل مع الحاكم هو مبدأ عام يحكم نظرته العامة للمجال الأخلاقي والسياسي، وقد شدد فيه على المسلك السلمي، وحذر فيه من العنف وتأجيج الفتنة، وإنْ انتهكت المقومات الشرعية الصورية لنظام الحكم. السياسة الشرعية - بالنسبة لابن تيمية - هي مجال الحلول التوفيقية والواقعية البراغماتية لما تقتضيه من حساب للمصالح والمفاسد ولجوء إلى ارتكاب أخف الأضرار.. فلا يمكن أن تكون خلفية لتبرير العنف الراديكالي ومحاربة الدولة والخروج على المجتمع باسم الدين. أستاذ الفلسفة- جامعة نواكشوط