ثمة دلالات واضحة على الشقاق في الغرب تظهر في بريطانيا وألمانيا وفرنسا، بينما وجد البيت الأبيض بقيادة أوباما، الأسبوع الماضي، سببين جديدين لكيل الانتقادات الغاضبة للحكومة البريطانية، أقرب حلفاء واشنطن وأكثرهم مصداقية وطواعية في زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية. وهو ما اعتبره البعض في وسائل الإعلام دليلاً على ضعف مستجد في «العلاقات الخاصة» التي سادت بينهما خلال القرن العشرين. ولطالما وجدت واشنطن هذه العلاقة مستوية وملائمة وغير مكلفة، ولاسيما أنها لم تكن تدفع شيئاً في مقابل الخدمات التي تحصل عليها، بما في ذلك كون بريطانيا عادة هي أول من يرسل جنوده في المهام العسكرية التي تصب بصورة أساسية في مصالح الولايات المتحدة الأميركية. وكان الاستثناء الوحيد هو حرب فيتنام، عندما استجدى ليندون جونسون حكومة لندن بلا جدوى كي تشارك في المعركة ولو بنزر يسير بحيث تبدو الحرب كحملة من الدول الديمقراطية ضد الأنظمة الشيوعية. غير أن البريطانيين رفضوا طلبه رفضاً قاطعاً. وأخيراً تجرأت لندن على انتقاد واشنطن، على رغم التأكيد المعتاد في الصحافة الإنجليزية على أن الولايات المتحدة هي «الشريك الاستراتيجي الأكثر أهمية بالنسبة للمملكة المتحدة»، ودأب الحكومة على تصديق ذلك أيضاً. ولكن واشنطن ردت الصاع صاعين، فأعرب مسؤول في البيت الأبيض الأسبوع الماضي عن أسفه تجاه «الموافقة البريطانية المستمرة للصين»، الأمر الذي يحدث منذ 2013، عندما بدأت لندن تحصد ثمار التجارة والاستثمارات الصينية. وكانت مناسبة التعليق قرار بريطانيا الانضمام إلى بنك البنية التحتية والاستثمار الآسيوي، وهو منافس محتمل لمؤسسات مالية دولية تتحكم فيها واشنطن، مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي. وقد كان من المتوقع ألا تحيد مواقف الدول الحليفة للولايات المتحدة تجاه البنك الجديد، ولكنها حادت بالفعل، إذ أعلنت ألمانيا وإيطاليا وفرنسا أنها ستنضم هي أيضاً إلى البنك الصيني الجديد. وتعرضت كل من بريطانيا -إلى جانب كافة الدول الأعضاء البارزة في حلف شمال الأطلسي باستثناء بولندا- إلى التوبيخ من قبل واشنطن بسبب إخفاقها في إنفاق أكثر من 2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي على الدفاع. وتساءلت كيف يمكن لـ«الناتو» إخافة خصوم الغرب إذا كانت النفقات على جيوشه وقواته البحرية تقل عن 2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي؟ وبريطانيا ليست وحدها هي العضو الرسمي في حلف «الناتو» الذي تعاني خطط جيشه ضعفاً من بعد قوة. فلأسباب تاريخية تحتفظ ألمانيا أيضاً بجيشها للمهام الإنسانية وعمليات حفظ السلام، لا أكثر. وللأسباب ذاتها، ظلت ألمانيا تمارس حتى وقت قريب جداً دبلوماسية متحفظة، في تأييدها للتحالف الغربي، خصوصاً مواقف الولايات المتحدة. ولكن تحت قيادة المستشارة أنجيلا ميركل، اضطلعت برلين -في ضوء ماضي ألمانيا الشرقية والسيطرة الروسية عليها- ليس فقط بدور القيادة الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي، ولكن تولت أيضاً زمام المبادرة في التعاملات مع روسيا ورئيسها. بيد أن علاقات ميركل مع واشنطن (وعلاقات القيادة الألمانية بأسرها) تراجعت منذ الكشف عن عمليات التنصت الشامل من قبل وكالة الأمن القومي الأميركية على اتصالات المستشارة الألمانية وحكومتها، بما في ذلك المكالمات التي تجريها هي عبر هاتفها الشخصي. وقد اعتبر ذلك نوعاً من أنواع الخيانة والابتزاز المحتمل، في حين رأت إدارة أوباما أن مثل هذه الأمور يعتبر شيئاً طبيعياً في العلاقات بين الدول المتحالفة. ثم حدث بعد ذلك الانقلاب الذي دعمته الولايات المتحدة في كييف، وقد أسفر عن مقتل كثيرين، وضم الرئيس الروسي بوتين شبه جزيرة القرم إلى روسيا، واندلعت الحرب الدامية في شرق أوكرانيا التي أودت بحياة أكثر من ثلاثة آلاف شخص، وأضرّت بالمدنيين دون رحمة. وقد قوبل الوضع المتلهب في شرق أوكرانيا بجلبة وتهديدات من البيت الأبيض (حسب التقارير الألمانية)، ودعاية غير جديرة بالثقة، على الصعيدين المحلي والدولي، خرجت من «البنتاجون» و«الناتو»، وكذلك اعتراضات الجمهوريين في الكونجرس الذين طالبوا بإرسال شحنات أسلحة جديدة لأوكرانيا وتصعيد للقتال، في حين اصطحبت المستشارة ميركل الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند، وطارت إلى مينسك للقاء بوتين، والتوصل إلى هدنة لا تزال سارية حتى الآن. وهناك اختلاف بشأن الشرق الأوسط في فرنسا أيضاً، ذلك أن وزير الخارجية لاوران فابيوس أعلن عن رفض باريس لإشارة نظيره الأميركي جون كيري يوم الأحد الماضي إلى أنه من المحتمل فتح باب العلاقات بين الغرب وحكومة الأسد في دمشق. ويكشف ذلك كله بوضوح تدهور العلاقات عبر الأطلسي، إضافة إلى العلاقات السيئة أصلاً بين روسيا والولايات المتحدة، وبين أوروبا وكل من الولايات المتحدة -التي تبدو محرك الفتنة- وبوتين، الذي يبدو أن أوروبا -الشرقية والغربية- تكن له مزيجاً من الاحترام الحذر والخوف الحقيقي، وإن لم يكن القطع في كل ذلك مؤكداً أيضاً. ------------- محلل سياسي أميركي يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون نيوز سيرفيس»