لو سُئل العربي عن مستقبل ابنه الذي يشع ذكاءً ونباهة، ولديه رؤية وطموح، فالجواب غالباً: طبيب، مهندس، مخترع. وإذا كان لديه ابن آخر متواضع الحال، سيقول، معلماً، صحفياً، مترجماً، أي شيء، المهم أن ينجح ويدخل الجامعة، ثم سيوصي الأول بكلية الطب، أو الهندسة أو العلوم، وسيندب حظه مع الثاني الذي لا أمل له إلا في التخصصات «السهلة»، إذ الفكرة السائدة في المجتمعات العربية أن الطب والهندسة والعلوم تحتاج أشخاصاً أذكياء، ومجتهدين، وطموحين، ويفكرون «صح»، أما غير هؤلاء، فعليهم أن يتدبروا أمورهم، والمهم أن «يأكلوا عيش» بأي مؤهل جامعي. هكذا ندفع المتميزين واللامعين نحو التخصصات «الصعبة»، ليتخرجوا أطباء ومهندسين وصيادلة وعاملين في المختبرات والمجالات التقنية، ونوجه «كل من تبقى» ليكونوا معلمين، وإعلاميين، وقانونيين، وباحثين اجتماعيين، وعاملين في المجالات التي تتطلب مؤهلات في العلوم السياسية والآداب وعلم النفس والفلسفة. ونحن حين ندفع هؤلاء ليتخصصوا في علاج الإنسان، وبناء العمارات لينام فيها الإنسان، وإنشاء الطرق ليسير عليها الإنسان، واختراع الريبوتات الآلية لتوفر الوقت والجهد على الإنسان.. فإننا نترك المجالات التي تصنع الإنسان نفسه لتكون مرتعاً للعناصر الأقل كفاءة والتي تبحث عن وظيفة «والسلام». مَن يصنع للجيل قيمه، وفلسفته في الحياة، ونظرته للأشياء من حوله، ومقاييسه في الحكم على الأمور، وكيفية إدارة علاقاته بالناس؟ هل يحدث ذلك في المستشفيات وفي المكاتب الاستشارية وبين يدي الريبوت الآلي، أم في المناهج التعليمية، وما يطرحه المعلم من تجارب، وما يتناوله الصحفي، وما يترجمه المترجم، وما يقوله المذيع، وما يُعرض على التلفزيون، وفي القوانين التي تصاغ، وفي الأبحاث حول ظاهرة العنف مثلاً، والدراسات حول الانتحار مثلاً، ولدى المشتغلين في التحليل السياسي، والمتخصصين في استشراف المستقبل، ولدى الذين يفترض أن يقولوا لنا من نحن، وماذا نريد، وأين سنذهب، وما هو دورنا في الحياة، وما هو المال، وما هي السعادة، وكيف نهضت الأمم، وكيف سقطت الدول، وماذا تفعل الطائفية، والعنصرية، والفساد، وما هو تأثير الأشياء على هويتنا وثقافتنا ومستقبلنا؟ كيف نترك كل تلك الأدوار الصعبة جداً، والأمانة الثقيلة، بيد الأقل ذكاء وألمعية وعمقاً وطموحاً، والذين أرسلناهم للتخصصات «السهلة»؟! هل نأمل من هؤلاء بأن يكونوا باحثين اجتماعيين شجعان وشغوفين، وقانونيين لديهم ملكة الفهم والاستنباط، ومعلمين يؤمنون برسالتهم، وصحفيين لديهم بعد نظر، ومترجمين عميقين، ومذيعين تبقى عباراتهم ترن في الآذان، ومتخصصين في التاريخ يغلقون الملفات المفتوحة، وباحثين دينيين بدرجة مفكرين وليس «حفّيظة»؟ أليست هذه النخبة المفكّرة التي نضمن بوجودها بأن الطبيب لن يفجر نفسه في عملية انتحارية، والمهندس لن يخطط لتفجير الطائرات؟! كما أن التخصصات التي نحشد لها البارزين واللامعين من أبنائنا، ألا يمكن أن نسد النقص فيها بالاستعانة بأطباء أجانب، ومهندسين، ومبتكرين؟! بل ألن يفعل الريبوت الآلي الكثير من الأشياء «الصعبة» مستقبلا مع التطور التقني الهائل؟! لكن هل يمكن الاستعانة بأجنبي مهما كان شأنه، أو برجل آلي مهما كان متطوراً، ليصنع لنا الإنسان؟!