لابد قبل الإقدام على أي عمل جراحي من معرفة «تشريح الخارطة النفسية»، فكما أن الجراحة ذاتها تحتاج بالدرجة الأولى إلى «المعرفة المحيطة بالتشريح»، فإنها تتطلب أيضاً معرفة خارطة المفاتيح النفسية. ونحن هنا لا نحتاج إلى معرفة كنه وحقيقة النفس البشرية، فهذا هدف يبدو أن لا طائل من ورائه -على الأقل في القريب العاجل- لذلك فما يهمنا هنا هو كيفية عمل النفس (أي ديناميكية الجهاز النفسي)، أو بتعبير أكثر تفصيلا: كيف يمكن أن نشحن فكرة أو نستأصلها أو نضيفها أو نستبدلها.. وذلك عبر إمكانية الدخول إلى باطن النفس ومعالجة الاضطرابات الذهنية والفوضى العقلية بجراحات دقيقة! إن النفس الإنسانية تعمل في مستويين من تكوينها هما: طبقة «الوعي»، وطبقة «اللاوعي». لكن الدخول إلى أي من الوعي أو اللاوعي، لا يتم إلا عن طريق الأفكار، أي محتويات الطبقتين، ونتائج عملية كهذه مرتبطة بميكانيزم آخر، هو مدى تشبّع النفس بالفكرة، أو على حدّ تعبير القرآن الكريم «الرسوخ». فالفكرة قد يكون وزنها «مايكرو غراماً» وقد يكون وزنها «ميجا طن»! فعندما تترسخ الفكرة وتُهضم جيداً، تتحول إلى اللاوعي، والدماغ الإنساني يعمل حتى في الليل، فلا يعرف الراحة كما يتصوّر البعض، حتى في النوم، كما ثبت من الدراسات الإلكترونية المتقدمة. والمسائل العويصة يشتغل عليها الدماغ والإنسان غافل عنها، فهو في أحد وظائفه كمبيوتر مدهش، فهو «يعالج» المعضلات حتى لو تركها الإنسان، ثم يقفز بنتائج عمله فجأة (حسب التجلي)، وهو ما يحصل معنا في تذكر المعلومات أو الأسماء. وآلية اللاوعي هامة من أجل خزن الخبرات، وإطلاق الحرية الإنسانية دوماً، فلو تم تشغيل الوعي دوماً بالمعلومات، ولم يرسلها إلى الآليات العميقة المختبئة في اللاوعي، لكان ذلك كارثة فعلية للإنسان بسبب النسيان، فالنسيان في الواقع هو في صالح آليات اللاوعي، كما في تعلم اللغات وقيادة السيارة وبقية المهارات اليومية، حيث تتخمر هناك وتعمل بشكل آلي بدون تفكير. و«العواطف» هي تعبيرات اللاوعي، وهي تلك الأفكار الدفينة التي نسيناها منذ زمن بعيد ولا نعرف عنها شيئاً، لكنها توجهنا بشكل مرعب. فالصربي الذي كان يقتل المسلم الصربي، ومن خلال شحن الذاكرة الجماعية بدماء معركة «أمسل فيلد» في كوسوفو قبل 600 عام، قد امتلأ «اللاوعي» عنده بأفكار سرطانية تتطلب جراحة أورام دقيقة ذات نتائج مؤكدة نفسياً واجتماعياً، والقيام بمعالجة كيماوية مكثفة ضد السرطان الثقافي متمثلا في النظرة الاستئصالية حيال الآخر المختلف عرقياً وثقافياً ودينياً، فضلا عن الحاجة إلى اختراق فكري شعاعي لتطهير ذلك عمق اللاوعي المملوء بمحفزات الكراهية وبؤر إنتاجها بشكل متجدد. ولعل المثال الصربي هو الأكثر وضوحاً في هذا الخصوص، لكن مع ذلك ينبغي أن نقر بأن كل مجتمع يحمل الكثير من مثل هذه السرطانات المخيفة والمختبئة بكل أمان وسرية في تلافيف الدماغ الداخلية، أي باطن اللاوعي الفردي والجماعي، كما هو الحال في كثير من أنماط الصراعات المذهبية الحالية في منطقة الشرق الأوسط، وعلى الأخص في المشرق العربي.