شغلت شرقنا قضية عزل النساء وحجابهن، قبل قرن من الزمن، فكان بمصر قاسم أمين (ت 1908)، وبالعراق جميل صدقي الزهاوي (ت 1936)، وبالشام نظيرة زين الدين (ت 1976) في كتابيها: «السّفور والحجاب» و«الفتاة والشيوخ» (1928)، وبعد قرن تعود القضية نفسها، لكن هذه المرة عن طريق فقيه غير متوقع، رئيس لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمدينة مكة، الشَّيخ أحمد بن قاسم الغامدي. هذا ليس كل تاريخ القضية إنما إذا صدقت الروايات فإن أول من واجهتها في تاريخ المسلمين ابنة الصحابي عائشة بنت طلحة (ت 101هـ). لستُ بصدد القضية نفسها، فقد كتبتُ عنها كثيراً وفصلّتها في كتاب «بعد إذن الفقيه»، بقدر ما استرعى التفاتي تكرار الحوادث وتشابهها، ولو رفعنا أسماء أبطالها والأمكنة ما ميزنا الزمن بين (1910) و(2010)، فتخيلوا معنى الزمن عندنا، وكيف نجتر حوادثه، مع أن الذين أثاروا القضية أرادوا منها استفزاز أهل زمانهم، كي لا تمضي السنون ولا نعتبر بتجدد المياه في الأنهر. فما قصة ذلك، وكيف لا يُحسب حساب قرن من الزمن، مرّ بأجياله ودوله مرَّ السحاب، وإذا سُئلنا عن الجديد نقول: «لا جديد تحت الشمس»، مع أن كل ما تحت الشمس جديد، لأن الصُّخور والأحجار تتغير وتتبدل بتركيبها وألوانها، فكيف بالعقول التي من شأنها التفكير ثم التغيير. عادت أفكار الشَّيخ الغامدي تظهر من جديد، بعد أن بدأت تشع من عقله في عام 1427هـ، وبأثرها (2010) وقف على باب داره أربعة شُبان ثائرين، يطلبون خروج زوجته وبناته معهم، لأنه أباح الاختلاط بين النساء والرجال، وقد قال بالحجاب دون الوجه والكفين لا أكثر، وأن الاختلاط بهذين ليس محرماً، إنما اجتهاد واختلاف، مستنداً إلى أحاديث وروايات وآيات. فخرجت إليهم زوجته السيدة جواهر بنت علي لتهدئتهم، ولم ينته الأمر إلا بتدخل الشرطة. أما قصة الشاعر، وطالب العلم الديني ونجل وشقيق مفتي بغداد، فقد حصلت بسبب مقالة كتبها في «المؤيد» المصرية (1910)، ثم أعاد نشرها الشيخ نعمان الأعظمي (ت 1936)، المدرس في مدرسة الإمام الأعظم والواعظ في الجيش العثماني، في مجلته «التَّنوير والأفكار»، فكانت المقالة وابلا على الزهاوي. يومها احتشد جمع من البغداديين أمام سراي الحكومة مطالبين بردع كاتبها (الزنديق). كان في مقدمة الغاضبين مِن العوام رجال الدين، الذين حرضوا والي بغداد ناظم باشا (ت 1913) ضده، على أن دعوته مخلة بالشريعة، فاستجاب الوالي لطلبهم! عُزل الزهاوي من التدريس في «مجلة الأحكام العدلية» التابعة لمدرسة الحقوق البغدادية (تأسست 1908)، واعتكف في داره خشيةً على نفسه. لم يتوقف الأمر عند هذا الإيذاء بل طرق ذات ليلة باب داره ثلاثة منْ أشقياء بغداد، وطلبوا منه السماح لزوجته أن تجالسهم في المقهى، وعندما احتج على الطلب، قالوا له: كيف تطلب من نسائنا أن يرفعنَ الحجاب ويختلطن بالرجال؟ انتهى الأمر بالتهديد بالقتل إن عاد ثانية إلى «مثل تلك الأقوال الفاسدة» (عز الدين، الشعر العراقي الحديث. الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث). ورُدَّ على الزهاوي بكُتيب عنوانه فتوى قتل «السَّيف البارق في عنق المارق» (1910). لم يُعط الزهاوي الفرصة للدفاع عن نفسه، مثلما دافع عن نفسه الغامدي، فالشاعر ليس له جلد المناظرة مع أمثال صاحب «السيف البارق». أما الغامدي فالمواجهة حصرت بينه وبين رجال الدين، واستفاد من وسائل التواصل الاجتماعي في الترويج لفكرته، وفي الدفاع عن نفسه، مع عدم اتخاذ موقف رسمي ضده. وإذا كان الزهاوي أعلن توبته، ونفى أن تكون المقالة مقالته، فالغامدي ظل مصراً متسلحاً بحجته الدينية، وفجر الموقف قولا وفعلا، أن خرج مع زوجته التي تبنت دعوته، لتقول، بالصوت والصورة: «نحن ثابتون على رأينا ولا نتراجع إلى الخلف، زدنا ثباتاً وإصراراً، وأرى الناس فرحين بالدعوة لكنهم يخفون ذلك». تجددت دعوة الغامدي عنها عند الزهاوي، مع أنها واحدة، أي كشف الوجه والكفين، والاختلاط يفرضه الزمن ولا يحرمه الدين. لكن أسلوب الخصوم ظل كما هو: أشقياء متسلحون بالدين، يقفون على الباب معتدين بلا وعي بدين ولا دنيا، الزمن بالنسبة إليهم مئة عام والأداة نفسها. يا خيبتنا، خلال مئة عام كم امرأة ملكت وترأست دولا واخترعت وتقدمت أتباعها الرجال في حزبٍ أو قضية!