في ملتقى متميز نظمته أكاديمية المملكة المغربية عن الثقافة المغربية، شاركت مع آخرين في مواضيع ذات علاقة بالثقافة بين الخصوصية الكونية والوطنية، وتوقف العديد من المتدخلين مع ما ورد في ديباجة الدستور المغربي لسنة 2011: «المملكة المغربية دولة إسلامية، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية- الإسلامية والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الأفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية..»، وقد أعجبني البحث الرائع والجامع الذي قدمه الأستاذ أحمد شحلان عن الرافد العبري في الثقافة التنموية المغربية.. وصفة عبري كما جاء على لسانه هي أولى بالوسم الثقافي الفكري، لا الصفة الدينية. فالفكر العبري شيء، والديانة اليهودية التي يؤمن بها من بقي من يهود المغرب في وطنه شيء آخر. وهنالك من يجد أصلًا للفظ «عبري» في أقوام هم «الحبرو» ممن خالطوا الشعب المصري في عهد من عهوده. وفي مجتمعنا العربي الإسلامي اليوم، أناس يوصفون بـ«العرب» ولا علاقة لهم بالإسلام، فهم مسيحيون. وفي هذه الحالة فالوسم بـ«العربي» هو وسم ثقافي فكري لا علاقة له بالديانة. كوصف «عبري» لا علاقة له بالديانة. وكما لم يصلنا تراث معرفي مغربي مكتوب قبل الإسلام، لم تصلنا كذلك كتابات عبرية مما هو من نتاج يهود المغرب قبل الإسلام، وموروث تلك العهود كان شفوياً على العموم، مثل المعارف المغربية كافة. ويُعتقد أن يهود المغرب، ما كانوا على علم بما كان يجري في بابل (العراق) وفلسطين. ولم يكن لهم علم بـ«المشنا» والتلمود. ولم يبدأ اتصالهم الديني والعلمي المؤكد مع علماء بابل وفلسطين إلا أيام إدريس الثاني الذي تولى الملك سنة 793 ميلادية. وبقي من هذه الفترة بعض الفتاوى التي أجابهم بها علماء بابل، وكذا بعض فتاوى سعديه گؤون الفيومي (882-942م)، عندما كان في مصر وقبل أن يغادرها إلى بابل. كما وصل من تلك العهود، فتاوى الربي هيا گؤون، وهي أجوبة أجاب بها يهود تلمسان، وأخرى أجاب بها يهود سجلماسة عندما سألوه فيها هل يجوز لهم أكل الجراد الميت. ولما دخل الإسلامُ المغربَ وانتشر في شمال أفريقيا، وانتشرت فيه أماكن العلم ومرابط المعرفة بفضل اللغة العربية ومقتضيات الدين الحاثة على المعرفة، تخلص يهود المغرب من قيود الرومان وغيرهم، وكان هؤلاء يضعون قيوداً على اليهود ويحدُّون من معارفهم، كما كان اليهود أيضاً يرفضون معارفهم لصبغتها الوثنية. فأصبحت المعارف العربية وأماكن الدرس، تضم من بين ما تضم، المتنورين من يهود المغرب. وإن أعوزتنا النصوص الدالة على هذا، فإن انتشار اللسان العربي الفصيح، بين عامة اليهود، يدل على ذلك، كما يمكن أن يذكر من أعلام، كتبوا بالعربية وتلقوا أجوبة فتاواهم بالعربية. وفي نفس الوقت، عرفت مدن شمال أفريقيا مراكز للعلوم اليهودية وأولها مدينة القيروان، حيث تعرّب لسان يهودها واشتغلوا بعلوم غير علوم الدين، مثل الطب. وكما كانت فاس منطلق المعارف العربية الإسلامية، كانت أيضاً منطلق العلوم العبرية اليهودية. وكما ورد على فاس في بدايتها، علماء من القيروان التي عرفت أول نهضة علمية عربية إسلامية في شمال أفريقيا، كذلك وصل إلى فاس علماء يهود من القيروان. وانتشرت اللغة العربية على لسان يهود المغرب. ويؤكد ذلك، ما بلغته المعارف اليهودية منذئذ، خصوصاً وقد أصبح المغرب الذي عبر منه طارق بن زياد إلى الضفة العليا، مصدراً ورافداً للثقافة العبرية في الأندلس. فبالإضافة إلى العلاقات العلمية الوثيقة التي كانت بين الضفتين، كما تدل على ذلك مكاتبات يهود المغرب إلى الوزيرين اليهوديين الأندلسيين حسداي بن شبروط وشموئل هالنگيد، أيام الحكم الأموي وملوك الطوائف، فإن المغرب كان موطناً لأكبر علماء اليهود الذين رحلوا إلى الأندلس. أستحضر هذا التاريخ وكيف تعايش مسلمو المغرب مع كل الثقافات والديانات، إذ لم يكن لهم ولا المسلمون عامة في كل أرض الإسلام مشكل مع الآخر. وأستحضر بحسرة وألم كيف يضطهد الإخوة الفلسطينيون ويهجرون من ديارهم وتسلب أموالهم ويمنعون من حقوقهم التاريخية، ولله الأمر من قبل ومن بعد.