يميل أغلب دارسي الإسلاميات السياسية الكلاسيكية إلى التمييز بين ثلاثة أشكال من الخطابات في التقليد الإسلامي الوسيط: الأحكام السلطانية التي هي الجانب السياسي من المباحث الفقهية، والفلسفة السياسية التي أنطلقت من الموروث اليوناني، والآداب السلطانية التي انطلقت من الموروث الفارسي. في هذا السياق، يعتبر عادة أن كتابات الفقهاء، هي التي طرحت موضوع شرعية الحكم في الإسلام باعتبار أن مصدر هذه الشرعية هو الدين، سواء تم النظر إلى الخلافة كولاية روحية تنعقد بها أحكام الدين (الرؤية الشيعية) أو ولاية سياسية تقتضيها مصلحة الدين وتطبيق أحكامه. المشكل الذي تطرحه هذه المقاربة السائدة هي عزل موضوع الشرعية عن مقوماته العقدية والقيمية باعتبار مبحث الشرعية يحيل إلى المنظومة الرمزية التي تضمن القبول والولاء للسلطة العمومية، وهو موضوع تتداخل فيه حقول معرفية عديدة ولا يتسنى فيه الفصل التعسفي بين الخطابات الثلاثة الكبرى التي يتوزع عليها التقليد الإسلامي الوسيط. هذا الفصل التعسفي، هو الذي أفضى إلى تركز مصادرة طوبائية الخلافة وهيمنة السلطوية وغربة الفلسفة، دون استشعار الخيوط الواصلة بين محددات المسألة السياسية في التقليد الإسلامي في توتره بين المصدر الرمزي للشرعية، الذي هو الأمة، أي الجماعة ومحور القوة والغلبة الذي هو إطار الفاعلية السياسية الواقعية. في دراسته المتميزة بالانجليزية حول «السياسة والشرع والجماعة في الفكر الإسلامي: اللحظة التيمية» (2012)، يذهب «أوفامير أنجوم» إلى أن مسار الفكر السياسي الإسلامي الوسيط قام على صراع بين فكرة مركزية الجماعة التي هي المقولة الأصلية في التقليد الإسلامي، وفكرة مركزية الخلافة التي نشأت في المرحلة الأموية، واتخذت عدة أشكال متدرجة. يتعلق الأمر بتوتر كثيف الدلالة بين الشرع والسياسة والفقه والدولة والحق والضرورة له مخزونه النظري والفكري الكثيف ونتائجه الحاسمة في موضوع الشرعية. مركزية الجماعة هي التعبير عن مرحلة الخلافة الراشدة، حيث أخذت السلطة شكل الوكالة عن الأمة باعتبار أن الأمة هي مستودع الشرعية، وهي المخاطبة بوظائف الدين الجماعية من فعل خير وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر. أما مهام الحاكم فلا تتعدى حفظ الأمن والدفاع عن الحوزة وتوزيع الثروة وإقامة العدل وهي وظائف عملية محضة. وإذا كان النموذج الإمبراطوري الذي اعتمدته الدولة الأموية بلور فكرة مركزية الخليفة «المقدس» الجامع للوظيفتين الدينية والسياسية، إلا أن سلف أهل السُنة والجماعة من أهل الحديث وفقهاء الأمصار رفضوا هذه الفكرة من منطلق مركزية الأمة التي أعادوا صياغتها لاحقاً من منظور مرجعية السُنة وتركة الخلافة الراشدة، بما يعني تحويل الفقيه إلى مشرع للجماعة ووكيل لها وإلزام الحاكم بتطبيق أحكامه. ومن هنا ندرك خلفية محنة ابن حَنْبَل في مواجهة محاولة المأمون تركيز مرجعية الإمام في بعديه الديني- السياسي، وهي المحاولة الفاشلة التي تولد عنها عقد ضمني بين الفقيه والسياسي، قوامه: تخلي الفقهاء عن مطامحهم السياسية في تمثيل الجماعة وقبول الحكام عقيدة وراثة الأمة للعصمة النبوية واضطلاع العلماء بدور التعبير عن هذه التركة من خلال سلطة النص والتأويل التي بأيديهم. مع العصر العباسي الثاني الذي انهارت فيه الخلافة وقامت السلطنات المتغلبة، تعقدت إشكالية الشرعية في اتجاه مأزق الاختيار بين خلافة تحولت إلى شرعية رمزية فارغة وسلطة فعلية تقتضيها مصلحة الدين وضرورات الجماعة. إنه الإشكال الذي تعامل معه ثلاثة من أهم فقهاء القرن الخامس الهجري: الماوردي في مشروعه لإنقاذ الخلافة على حساب مركزية الجماعة، التي خرجت من مقتضيات الشرعية من منظور وظيفة الإمامة الحارسة للدين والدنيا معا، الجويني في دفاعه عن إمارة التغلب ونقله الشرعية إلى السلاطين المدافعين عن الدين والأمة، الغزالي في إحيائه لرمزية الخلافة إلى حد منحها بعداً دينياً روحياً قوياً مع التعامل الواقعي مع سلطة الغلبة والشوكة واختفاء مركزية الأمة. ما يخلص إليه «أنجوم» أن الخلافة في العصور الإسلامية الكلاسيكية المتأخرة تلاشت، فتحول الصراع في المجتمع إلى صدام بين سلطة الحكام المتغلبين وسلطة العلماء الذين إنْ دعوا إلى طاعة الحكام، فإنهم ظلوا متمسكين بالشرعية الرمزية للخلافة، مما سمح لهم في آن واحد بالتحلل من مسؤولية الواقع السياسي في الوقت الذي يتعاملون معه بمنطق الضرورة والمصلحة دون تشريعه. النتيجة النهائية من هذا التحليل التاريخي المفهومي هو أن الجماعة التي ظلت نظريا موضوع الشرعية لم تتحول في أي من كتابات الفكر السياسي الكلاسيكي إلى مصدر للفاعلية الذاتية كأداة للتغيير، ولذا ظل المخيال الإسلامي في انتظار المهدي المخلص الذي يأتي في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً.