مؤخراً قامت دولة صغيرة لا يـُذكر اسمها في الأخبار إلا نادراً بتقديم شكوى في محكمة العدل الدولية بمدينة لاهاي ضد مجموعة من الدول الكبيرة مساحة وسكانا واقتصادا وقوة عسكرية، طالبة مقاضاتها بسبب فشلها لجهة الالتزام ببنود معاهدة عام 1968 للحد من انتشار الأسلحة النووية، وتقاعسها عن التفاوض حول التخلص من ترسانتها النووية، بل والقيام بتحديث تلك الترسانة، بدلا من تفكيكها، عبر إنفاق ما لا يقل عن تريليون دولار عليها خلال العقد القادم. المدعية في هذه القضية هي جمهورية «جزر مارشال»، التي تتكون من نحو 1150 جزيرة صغيرة واقعة قرب خط الاستواء في المحيط الهادي، ويبلغ عدد سكانها نحو 70 ألف نسمة، وقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى القبطان البريطاني «جون مارشال» الذي اكتشفها في عام 1788 أثناء نقله السجناء من بريطانيا إلى أستراليا. تاريخياً اعترف الأوروبيون بها كجزء من جزر الهند الشرقية الإسبانية في عام 1874، قبل أن يبيعها الإسبان إلى الألمان في عام 1884. وفي أثناء الحرب العالمية الأولى خضعت للاحتلال الياباني. ثم خضعت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لإدارة الولايات المتحدة كجزء من منطقة تحت وصاية الأمم المتحدة، وقد استمر هذا الوضع لمدة أربعة عقود حتى حصولها على الاستقلال والسيادة في عام 1986 بعد فترة قصيرة من الحكم الذاتي. وبسبب ضعفها اقتصادياً وعسكرياً، وافتقارها إلى الموارد الأولية والخدمات الضرورية، اضطرت جمهورية مارشال المستقلة إلى الارتباط دفاعياً واقتصادياً بالولايات المتحدة بموجب ما عـُرف بـ «ميثاق الارتباط الحر»، الذي يتيح لهذه البلاد الحصول على مساعدات أميركية بملايين الدولارات سنوياً حتى عام 2023 مقابل استغلال جزرها في إقامة القواعد العسكرية وإجراء التجارب النووية. أما المـُدعى عليها فهي الدول النووية التسع وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية واسرائيل، مع ملاحظة أن الدعوى ضد واشنطن رفعت إلى المحكمة الفيدرالية الأميركية في كاليفورنيا بدلاً من محكمة العدل الدولية لأن الأميركيين لا يعترفون بالسلطة القضائية للأخيرة. ومع ملاحظة أمر آخر هو أنه على الرغم من أن مصدر الضرر المحيق بجزر مارشال هو الولايات المتحدة، فإن الحكومة المارشالية قررت الادعاء على كل القوى النووية دون استثناء. وعلى حين لا تزال القضية مطروحة أمام محكمة لاهاي، فإن قاضي المحكمة الأميركية «جيفري وايت»، رد الدعوى بحجة أنها تخلو من البعد القانوني وتنطوي على بعد سياسي (مشيراً على وجه التحديد إلى ادعاءات جزر مارشال بالسيادة على جزيرة «ويك» الأميركية)، على الرغم من وجود حقائق تسند الدعوى المرفوعة وتؤكد تضرر جمهورية جزر مارشال وسكانها من التجارب النووية الأميركية صحياً وبيئياً. وقد لخص «ديفيد كريجر» رئيس «مؤسسة السلام في العصر النووي»، والذي يؤيد بقوة وجهة نظر الدولة المدعية ويعمل مستشارا لها، الأضرار التي عانتها الأخيرة من تجارب واشنطن النووية بقوله إن: «الولايات المتحدة قامت ما بين عامي 1946 و1958 بسبع وستين تجربة على الأسلحة النووية في الأراضي المارشالية، وهو ما يساوي في قوتها مجتمعة نحو 1.6 من قوة القنبلة التي ألقيت على هيروشيما». ولعل ما فاقم من غضب المارشاليين وصديقهم «كريجر» هو تعليق القاضي الأميركي الذي قال إنه لا توجد دلائل على وقوع الضرر، وأنّ كل ما يـُقال في هذا السياق ليس سوى تنبؤات فحسب، وهو ما رد عليه كريجر بالقول: «يبدو أن الأميركيين يريدون وقوع الحوادث النووية فعلاً قبل أن يقبلوا الدعاوي بشأنها». والحقيقة أن «المارشاليين» يستطيعون تأكيد الضرر الواقع عليهم عبر إبراز تقارير لجنة الطاقة الذرية التي تفيد بأن «جزر مارشال»، هي الأكثر تلوثاً بالغبار النووي في العالم، لأن واشنطن استخدمتها لإجراء أكبر اختبار نووي لها، ناهيك عن أن اختبار أول قنبلة هيدروجينية أميركية (لفي مايك) كان أيضا في هذه البلاد ونجم عنه تدمير جزيرة «إلوجيلاب» المارشالية بالكامل. أما على صعيد الدول الأخرى المُدعى عليها، فإنها هي الأخرى ترفض الوقوف أمام محكمة العدل الدولية تلقائيا للدفاع عن نفسها مثلما طالبتها حكومة مارشال، ومحكمة العدل لا تستطيع ـ طبقا لبنود تأسيسها ـ أن تجبر أعضاءها على المثول أمامها في أي قضية، بمعنى أن أطراف أي نزاع يجب أن تتفق مسبقا على رفع نزاعها إلى المحكمة سوية كي تقوم الأخيرة بعملها. هذا فضلا عن أن بعض الدول التي تريد جمهورية مارشال أنْ تقاضيها، مثل الصين وإسرائيل، أعلنت صراحة لا مبالاتها بالقضية. وفي رد له على مثل هذه المواقف السلبية حيال قضية تهدد البشر والبيئة قال وزير الخارجية المارشالي إن بلاده ستحارب قضائياً بنفس طويل كي لا يتعرض أي إنسان على وجه البسيطة لما تعرض له مواطنوه من مخاطر جراء التجارب النووية، مضيفا أن بلاده لا تطالب بتعويضات، وإنما بإجراءات لإجبار القوى النووية على الالتزام بواجباتها. وأخيرا فإن ما أقدمت عليه حكومة ماجورو، حتى وإنْ لم يؤد إلى نتيجة، فإنه خطوة شجاعة يُحسب لها لأنها المرة الأولى التي تقاضي فيها دولة صغيرة وضعيفة دولا أكبر وأقوى منها بكثير.