إذا ما استطاع السلام أن يبرز سلوك العدو وأسلوبه في الحياة، وزراعته للصحراء، وبناءه للمستعمرات، وتعميره، وإقامته المدن الجديدة، وإنشاءه القرى السياحية، وتخطيطه للموانئ على السواحل، واستخراجه ثروات الأرض، فربما أصبحت الصهيونية -في نظر البعض- نموذجاً للتحديث! وما استطاعت الصهيونية القيام به من قبل في أفريقيا على أنها نموذج للتحديث وقاومناه، قد تريد الصهيونية القيام به لدينا نحن في عقر دارنا وفي قلب العالم العربي. فبدل أن كان الغرب نموذجاً للتحديث قد تريد الصهيونية أن تحل محله. إن أقصى ما نستطيع أن نعطيه هي السواعد الفتية، والأيدي العاملة، والمواد الخام، والأسواق والأموال. أما الفن وأساليب الإنتاج والعلم كل ذلك كانت تقوم به دول الغرب والعلوم الحديثة، فتكون بالنسبة لنا الروح ونكون بالنسبة لها الجسد. هي مصدر الخبرة ونحن مادتها ولا حياة لنا بدونها. ونعود إلى دور رجال المال الأجانب وخبراء الغرب في حياتنا المعاصرة، ونعود من جديد إلى المطالبة بالخبرة الوطنية التي نفخر بها كل يوم في جامعات الغرب ومعاهده ومستشفياته ومؤسساته ومعامله. فإذا ما تمت المقارنة بين حياتنا وحياتهم، وفقرنا وغناهم، وتخلفنا وتقدمهم، وجهلنا وعلمهم، فربما نشأ لدينا الإحساس بـ«الدونية»، وأصبح أقصى مطمح لنا في الحياة هو اللحاق بهم وتقليدهم والوصول إلى مستواهم! يصبح ما لديهم مقياساً لسلوكنا ومعايير لقيمنا، وبالتالي يضيع ما ناضلنا من أجله منذ فجر النهضة العربية من اعتزاز بالتراث، وإثبات للهوية، ودفاع عن القومية، ونصبح ضحايا العنصرية الحضارية. ونؤكد في أنفسنا العجز، ونرى بأعيننا ما روجه الغرب عن الصدمة الحضارية أو الفجوة الحضارية. وأن الفجوة بيننا وبينهم تتسع أكثر فأكثر كلما مر الزمن لأن معدل لحاقنا بالتكنولوجيا المتطورة أبطأ بكثير من معدل إنتاج الغرب لها. وبالتالي فالزمن والتاريخ بالنسبة لنا قد يعنيان مزيداً من التأخر. فالعالم يتقدم إلى الأمام ونحن نتقدم إلى الوراء. ولما كانت الصهيونية تحاول أن تكون جزءاً من العالم الغربي ومحركه الأول بأموالها ومكْرها أصبحنا نحن خارج العالم بفقرنا وجهلنا! وإذا ما تم ذلك قد يعتقدون أننا سنقبل الصهيونية كفكرة. ونراها كما ادعت الصهيونية زوراً بأنها حركة تحرر للشعب اليهودي. فقد استطاعت تجميع اليهود من الشتات وإقامة دولة، وكسب ثلاث أو أربع حروب. وبالتالي قد يضيع أكبر مانع كان يحفظنا من الغزو الصهيوني وهو الاعتقاد في عدالة قضيتنا، وهو ما تسعى الصهيونية الآن إلى زعزعته بعد أن استولت على الأرض، أرض فلسطين، وشردت الشعب، شعب فلسطين، ومحت الاسم، اسم فلسطين. ويكون أكبر تنازل نقدمه لها على نحو يضمن لها البقاء. ولن تحتاج الصهيونية بعد ذلك إلى جيوش وأساطيل بعد أن رأينا العربي الإسرائيلي واليهودي الإسرئيلي يعيشان سوياً، ونسينا وضع اليهود الشرقيين داخل الدولة الصهيونية الذين يكونون أكثر من 60% من السكان والذين يعيشون على هامش الحياة دون سلطة أو تمثيل في المجالس النيابية أو في السلطة التنفيذية أو في قيادات الجيش أو أساتذة الجامعات. نسينا أن اليهودي لا يكون كذلك إلا إذا كان بولندياً أو روسياً أو أميركياً. وأخيراً، يتم تزييف وعي العالم العربي ككل، وقد تصبح دعاوى الصهيونية بديلًا عن القومية العربية، في تصور المحتلين. تأخذ الصهيونية تاريخنا وتشكل حاضرنا وتصنع مستقبلنا. وتحقق حلم بل وهْم الصهيونية القديم بأن تكون الحضارة العربية والإسلامية جزءاً من الحضارة اليهودية كما هو واضح في دائرة المعارف اليهودية! وأن تكون الحضارة اليهودية هي ممثل الحضارات السامية كلها، ونموذجها الأوحد! تلك هي مخاطر السلام، في بساطة ووضوح، وبحماس الطالب إن لم يكن بعلم الأستاذ. فالأمن المطلوب ليس هو الأمن العسكري بل الأمن الحضاري، وها نحن قد أعطيناه لهم، جيل السلام. --------- أستاذ الفلسفة - جامعة القاهرة