تحولت دول مجلس التعاون الخليجي، وبالأخص الإمارات والسعودية في العقدين الماضيين إلى مركز إقليمي للصناعات الغذائية في تطور لافت للنظر لكون هذه البلدان لا تتمتع بوفرة المياه والأراضي الصالحة للزراعة، مما يعبر عن جودة الإدارة الاقتصادية، والتي تتيح التغلب على المصاعب وتحقيق الإنجازات. في السابق، كانت دول المجلس تستورد كامل احتياجاتها تقريباً من منتجات الألبان ومشتقاتها ومن السلع الزراعية، إلا أنه مع مطلع القرن الحالي تمكنت ليس من تلبية معظم احتياجاتها من هذه المنتجات فحسب، وإنما تحولت إلى مصدر لها. تزامن ذلك مع تراجع الإنتاج الغذائي في العديد من البلدان العربية التي تتوافر فيها مقومات تنمية هذه المنتجات، إلا أنها تفتقر إلى الإدارة السليمة والبنى التحتية المتطورة والأنظمة والقوانين المشجعة للاستثمار وجذب رؤوس الأموال، في الوقت الذي تضاعف فيه عدد سكانها في العقود الثلاثة الماضية، وارتفعت احتياجاتها من السلع الغذائية، ما عقد مصاعبها الاقتصادية والاجتماعية. ويعتبر ذلك مفارقة غريبة، إلا أنها تُعبر أيضاً عن سياسات اقتصادية وحكمة في الإدارة، فدول المجلس التي تفتقر إلى الاحتياجات الأساسية لتنمية الصناعات الغذائية، أضحت مزوداً رئيسياً لمنتجات الألبان للبلدان العربية، حيث تتوافر السلع الخليجية على أرفف الأسواق في السودان والعراق ومصر وسوريا، إذ تتمتع هذه السلع بجودة عالية وقدرة تنافسية. والحقيقة أنه لم يكن من السهل تحقيق هذه النقلة والتي قلبت المفاهيم السابقة التي أشارت إلى عدم إمكانية تنمية الصناعات الغذائية في دول المجلس بسبب عدم توافر المقومات اللازمة لذلك، إلا أن اهتمام الدولة بتطوير البنى التحتية، بما فيها شبكات الري ومعالجة المياه وطموحات القطاع الخاص الخليجي الذي ساهم بفعالية في هذا الجانب، إضافة إلى تطور التقنيات، كالزراعة في الأراضي المالحة والاقتصاد في استهلاك مياه الري والزراعة المحمية ساهمت جميعها في قلب المفاهيم السابقة وحولت دول نفطية إلى مركز للصناعات الغذائية في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يدعم التوجه الاستراتيجي لدول المجلس والرامي إلى تنويع مصادر الدخل الوطني، تمهيداً لفترة ما بعد النفط، حيث يتم تنفيذ هذا التوجه من خلال تنمية القطاعات غير النفطية، بما في ذلك تنويع مصادر الطاقة، وبالأخص الطاقة المتجددة. ويبدو أن هذا القطاع المرتبط بالأمن الغذائي ينتظره المزيد من التقدم والنمو، وذلك بفضل الاهتمام به على أعلى المستويات، ففي دولة الإمارات على سبيل المثال هناك متابعة لتنمية الصناعات الغذائية والزراعية على أعلى المستويات، فصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي يولي اهتماماً خاصاً بهذا الجانب، وبالأخص تطوير الزراعة العضوية المرتبطة مباشرة بصحة المستهلكين، وهو ما يبشر بإمكانية تحول دولة الإمارات إلى مركز إقليمي للزراعة العضوية. إذن لا حدود للطموحات، فالإدارة الناجحة والتكنولوجيا المتقدمة أزاحت كافة المبررات السابقة والعوائق، والتي كانت تقف حجر عثرة أمام تطوير بعض القطاعات في هذا البلد أو ذاك، مما يمكن معه الاستنتاج، بأنه لا توجد دولة غنية وأخرى فقيرة، وإنما هناك إدارة جيدة وأخرى ضعيفة. وإضافة إلى ذلك ارتبطت توجهات دول المجلس في السنوات القليلة الماضية بضرورة تكامل هذه الصناعات من خلال الاستثمار الخارجي في القطاع الزراعي بالدول التي تتوافر فيها المقومات الأساسية، مما سيساعد على تكامل الصناعات الغذائية الخليجية من جهة، ومساعدة البلدان العربية والأجنبية على تنمية اقتصاداتها من خلال الاستثمارات الخليجية من جهة أخرى.