ناقشنا في المقالات السابقة موضوع الأمن القومي المصري، في ظل مفهوم الثقافة الاستراتيجية، وهذا المفهوم حديث بدأ استخدامه في تحليل العلاقات الدولية منذ عقود قليلة، وهو يثير قضية أساسية وهي أهمية الثقافة السائدة في صياغة سياسات الأمن القومي. والنظرية التقليدية للأمن القومي تقوم أساساً على التحديد الدقيق لمصادر التهديد التي توجه للدولة وطرق مواجهة هذا التهديد. ولا يعني ذلك بالضرورة أن مصادر التهديد ستظل ثابتة لا تتغير إذا تم تحديدها في لحظة ما. بعبارة أخرى فإنه، نظراً لعوامل دولية وإقليمية وسياسية معقدة قد يتغير النظر إلى مصادر تهديد الدولة. وعلى ذلك يمكن القول، إن نظرية الأمن القومي العربية التقليدية ظلت لعقود طويلة ثابتة على أن مصدر التهديد الرئيسي هو دولة إسرائيل، غير أن هذه النظرية تغيرت تغيرات جوهرية بعد حرب أكتوبر 1973 وتوقيع مصر لاتفاقية «كامب ديفيد» مع إسرائيل، ثم إبرام معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية. وهكذا لم تعد إسرائيل بالضرورة هي مصدر التهديد الرئيسي، وإن ظلت مصدراً محتملاً للتهديد، بعبارة أخرى قد تتغير الثقافة الاستراتيجية عبر الزمن نتيجة عوامل معينة. ولكن يمكن القول إن ثورة 25 يناير وصعود جماعة «الإخوان المسلمين» إلى السلطة السياسية ممثلة في الأكثرية التي حصل عليها حزب «الحرية والعدالة» من ناحية، وتولي رئيس الحزب «محمد مرسي» رئاسة الجمهورية بعد ذلك، أدى إلى تغير جوهري في اتجاهات الثقافة الاستراتيجية المصرية، وذلك لأن الثقافة الاستراتيجية المصرية طوال عقود طويلة قامت على أساسين القيادة الوطنية من ناحية، وتقديس حدود الدولة من ناحية أخرى، والدفاع عنها بصورة مطلقة. وهذا التغير الجوهري المؤقت الذي لحق بالثقافة الاستراتيجية المصرية يرد في الواقع إلى المشروع السياسي الذي تبنته جماعة «الإخوان المسلمين»، طوال تاريخها منذ نشأتها عام 1928، ومحاولتها تطبيقه بعد أن وصلت إلى مطلق السلطة في مصر. ومفردات هذا المشروع الأساسية هي قلب الدولة المدنية وتحويلها إلى دولة دينية أولاً لكي تصبح مجرد ولاية من ولايات الخلافة الإسلامية التي سيتم إقامتها، وثانياً لا مانع عند هذه الجماعة لو حُكمت مصر بقيادة غير مصرية مادامت ستكون قيادة إسلامية، فكأنها غلّبت عنصر الدين على عنصر الجنسية. وقد عبر عن هذا الاتجاه المنحرف «مهدي عاكف» المرشد السابق لجماعة «الإخوان المسلمين»، حين صرح قائلاً «لا يعنيني أن يكون رئيس الجمهورية المصرية ماليزياً أو إندونيسياً، مادام سيكون مسلماً». والمفردة الثالثة الخطيرة من مفردات المشروع «الإخواني»، هو عدم تقديس الحدود الوطنية، وعلى ذلك كان هناك مشروع قيد الإعداد يتم بمقتضاه التخلي عن جزء من شبه جزيرة سيناء واقتطاعه لحركة «حماس» التي هي فرع من فروع جماعة «الإخوان المسلمين» لتقيم عليه ولاية إسلامية. مما سبق يتضح مدى الخطورة التي مثلها حكم جماعة «الإخوان المسلمين» في العام الذي قضته في الحكم، والذي كان - لو استمر – سيؤدي إلى انقلاب في الثقافة الاستراتيجية السائدة، وبالتالي في مجال الأمن القومي المصري. وإذا كنا خلصنا في المقال الماضي إلى أن «مدنية الدولة» ينبغي أن تكون هي جوهر الثقافة السياسية المصرية ضماناً لعدم خلط الدين بالسياسة، وما يؤدي إليه من تلاعب بالقيم الأساسية للأمن القومي، فإنه لابد لنا في الواقع أن نسعى إلى تقنين نظرية الأمن القومي المصري في صلب الدستور حتى لا يتاح لأي فصيل سياسي ينجح في الانتخابات أن يغير من هوية الثقافة الاستراتيجية المصرية. ويقتضى ذلك في الواقع - بالإضافة إلى التركيز على مدنية الدولة- التأكيد على «عروبة مصر» باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من العالم العربي، بما يفرضه ذلك عليها من التزامات تتمثل في أن تكون القوات المسلحة المصرية أحد الأجنحة العسكرية القوية في تكوين قوة دفاع مشتركة لمواجهة مصادر التهديد الخارجية والداخلية، وأبرزها الإرهاب المعولم، غير أن تقنين نظرية الأمن القومي في الدستور شرط ضروري، وإن كان ليس كافياً، لأنه لابد من ضمانات دستورية تلزم النخب السياسية الحاكمة والمؤثرة بقواعد هذه النظرية، وضمان عدم الخروج على أطرها الحاكمة مهما تغيرت الحكومات. ويقتضى ذلك في الواقع تنمية ثقافة «الوطنية» من ناحية، وثقافة «المواطنة» من ناحية أخرى، وذلك من خلال إحياء الذاكرة التاريخية المصرية في مجال المعارك البطولية التي خاضتها القوات المسلحة المصرية منذ نشأتها دفاعاً عن حدود الوطن غير القابلة للتعديل أو التنازل، وكذلك في مجال المسيرة الوطنية ضد قوات الاحتلال الأجنبية التي سبق لها أن احتلت بلاداً عربية متعددة.