في غضون الأشهر القليلة المقبلة، من المرجح حلّ قضية مشاركة الولايات المتحدة في الاتفاقية التجارية للشراكة «عبر الهادي»، بطريقة أو بأخرى. وهذه القضية ـ كي نضع الأمور في نصابها ـ مثيرة للجدل بشكل كبير. الاتفاقية تسعى لتدشين تجارة حرة متعددة الأطراف من أجل زيادة تحرر اقتصادات منطقة آسيا والمحيط الهادي. فمن يؤيدون الاتفاقية يعتقدون أنها ضرورية وتأتي ضمن مصالحنا الاقتصادية والجيوسياسية. وأما المعارضون، فيخشون أنها ستفيد الشركات والأثرياء بشكل كبير على حساب مستوى معيشة الطبقة المتوسطة، بيد أنه من غير الممكن الحكم عليها بصورة قاطعة، فالأطراف لا تزال في مرحلة التفاوض، ولم يتم التوصل إلى اتفاقية نهائية بعد. وعلى مفاوضينا ألا ينسوا أبداً أن هؤلاء الذين «يريدون» الاتفاقيات يحصلون على شروط أقل ملائمة من الذين «لا يريدونها». والاقتصاد الأميركي بالطبع قادر على تحقيق الازدهار من دون الصفقة. والحاجة إلى فرص تحقيق أرباح عالمية للشركات التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها ليست من بين المشاكل الأكثر إلحاحاً التي يواجهها الاقتصاد الأميركي، وعلى الرغم من ذلك، أعتقد أن التوصل إلى اتفاقية ملائمة للشراكة عبر «الهادي» أمر يصب بشكل كبير جداً في المصلحة الوطنية الأميركية. ولكن بداية، لابد عند دراسة العوامل الأساسية، لا سيما مصالح العمال الأميركيين، من التمييز بين آثار التجارة وآثار الاتفاقيات التجارية، فالجمع بين نماذج تجارية متغيرة تتضمن مزيداً من الأنشطة مع الأنظمة الاقتصادية ذات الأجور المنخفضة والأبحاث الجديدة، غيّر التفكير الاقتصادي بشأن التجارة، وأصبح الإجماع الآن على أن التجارة والعولمة أنتجتا زيادة كبيرة في غياب المساواة داخل الولايات المتحدة من خلال السماح بمزيد من فرص تحقيق أرباح للدول التي توفر عمالة أكثر تنافسية، خصوصاً في مجال التصنيع. غير أن الزيادة في نطاق التجارة الأميركية تدفعها بشكل كبير التكنولوجيا والتطور الكبير في الاقتصادات النامية، وليس الاتفاقيات التجارية، وعلى سبيل المثال، لم تبرم الولايات المتحدة اتفاقيات أو ترتيبات تجارية جديدة مع الهند منذ عشرين عاماً، وعلى الرغم من ذلك، زاد حجم التجارة الدولارية بين البلدين تسعة أضعاف. وعليه، فإن ترتيبات مثل «الشراكة عبر الهادي» من الممكن أن ترجح كفة المكاسب التجارية تجاه الطبقة المتوسطة الأميركية، ويعزو ذلك إلى حقيقة أن الولايات المتحدة لها باع طويل كسوق مفتوح، ويعني ذلك أنه إذا تم التفاوض بشكل ملائم على اتفاقيات تجارية، فإن من شأنها هدم الحواجز الأجنبية وتعزيز الصادرات بدرجة أكبر بكثير من تقليص الحواجز الأميركية، ومن شأنها أيضاً تقليص الضغوط على التوريدات الخارجية لأنه عندما تزول العقبات فإن حوافز الاستثمار في الخارج من أجل تفادي دفع الرسوم الجمركية تتراجع. وبالطبع تعتبر اتفاقية الشراكة عبر الهادي ضرورية لأنها تسمح للمنتجين الأميركيين بالمنافسة، في ضوء انتشار ترتيبات التي لا تتضمن الولايات المتحدة، فعلى سبيل المثال، حصل المنتجون في اليابان وجنوب شرق آسيا في الوقت الراهن على بنود تجارية في أسواق كل منهم أفضل من الولايات المتحدة، ولن نستطيع إلا من خلال الشراكة عبر الهادي أن نحصل على فرصة إدارة المنافسة الدولية بطريقة يمكن أن تفيد العاملين الأميركيين عبر الربط بين الترتيبات في مجالات، مثل معايير العمال والمعايير البيئية. لذا، لا ينبغي الحكم على الشراكة عبر «الهادي» من خلال الماضي الافتراضي الذي لم يواجه فيه العمال الأميركيون منافسة خارجية، ولكن في سياق عالمي يحدث فيه تكامل تجاري بالفعل في آسيا، سواء بمشاركة أميركية أو من دونها. وستعتمد ميزتها على أولويات التفاوض الأميركية. وبعض الأمور التي يدفع باتجاهها مجتمع الأعمال يكاد لا يكون لها علاقة بمصالح الغالبية العظمى من العمال الأميركيين، ولا ينبغي التأكيد عليها. ومن هذه الأمور الضغط على الدول الأخرى لتغيير معايير الصحة والسلامة، وتمديد وتعزيز قوانين حماية براءات الاختراع، ورفع القيود عن الخدمات المالية. وفي مثل هذه المجالات ـ وبناء على الإنصاف ـ من المنطقي بالنسبة للولايات المتحدة أن تدفع لتحقيق مبدأ المعاملة المحلية، القائم على عدم التمييز ضد الشركات الأجنبية، على ألا تستخدم قوتها التفاوضية الثمينة في تغيير الخيارات الأساسية للدول الأخرى. وبالأحرى، من الملائم في محادثات اتفاقية الشراكة عبر الهادي، ودبلوماسية الولايات المتحدة الاقتصادية دولياً بصورة عامة، استخدام النفوذ الكبير الذي تمتلكه واشنطن في مجالات ذات أهمية مباشرة تنعكس على مستويات معيشة الطبقة المتوسطة. ومن بينها منع المساعدات غير الملائمة للمنتجين ـ لاسيما التلاعب بأسعار الصرف أو تشويه حسابات الشركات الحكومية ـ وأيضاً التعاون بشكل عام من أجل ضمان أن العالم الذي تنتقل فيه الشركات ورؤوس الأموال بشكل كبير لن تخسر فيه الحكومات القدرة على حماية مواطنيها. وأية اتفاقية دولية لا ينبغي الحكم عليها بناء على طموحاتنا، ولكن أيضاً على بدائلنا، مع العلم أنه لا يمكن لأي اتفاقية شراكة عبر الهادي أن تحقق كل ما نريد، ولكن لابد أن يكون ممكناً التفاوض على اتفاقية تكون أفضل من بديل نمو تجاري يتشكل عن طريق اتفاقيات لا تشمل الولايات المتحدة. لورانس سامرز وزير الخزانة الأميركي الأسبق يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»