حتى يحصل التغيير الاجتماعي لابد من تشكل نسبة اجتماعية معينة من الناس لا ينقصون عنها، ولا فائدة من زيادتها إن لم تربك «كتلة حرجة» من الذين يبنون المؤسسات وينشرون الأفكار الصحية، لأن بعض الأمراض لديها قدرة العدوى، في حين أن الأفكار لديها قدرة العدوى دوماً، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الفكرة الجيدة فيها صفة الخلود، في حين أن الفكرة السيئة فيها الصفة السرطانية (التورم غير الصحي والموت بعد حين)، وهو تعبير القرآن بأن الفكرة السيئة (خبيثة)، وفكرة «الكتلة الحرجة» كونية، سواء في المادة الصلبة أو السوائل، في البيولوجيا أو النفس، في الانفجار الذري أو غليان الماء أو التغيير الاجتماعي..فهو قانون انطولوجي وجودي. ولعل هذا ما أشار إليه ابن خلدون في مقدمته أيضاً، من أن التراكم (الكمّي) يُحدث انقلاباً (نوعياً) مع الزمن. ولمزيد من فهم الفكرة نقول: من أجل تمليح الماء حتى يحفظ الجبن، كانت النسوة قديماً يلجأن إلى إضافة الملح بالتدريج، ولا يكفي مجرد الإضافة، بل لابد من التفاعل حتى يذوب الملح في الماء تماماً، أي يختلط ويصل إلى درجة التجانس، وتستمر هذه الإضافة وهذا التفاعل إلى الدرجة التي يكون الوسط قد أُشبع إلى «الدرجة الحرجة»، بحيث إننا نعرف مثلاً أنه مناسب لحفظ الجبن بوضع البيضة فتطفو على السطح. إن قوانين المواد والسوائل تتشابه بدرجة كبيرة، فتفجير القنبلة الذرية يحتاج أيضاً إلى «الكتلة الحرجة»، فلا تنفجر إذا وُضعت بكميات اعتباطية، بل لابد من كتلة حرجة، بحيث تُضغَط كتلتان من مستوى «ما تحت الحرِج» كي تصبحا بعد الدمج فوق الكتلة الحرجة، فيحصل الانفجار المهول. هذه «الكتلة الحرجة» تُعتبر سراً حربياً للدولة مالكة السلاح الاستراتيجي. ويسري هذا القانون على النفس، فلابد من وصول النفس إلى درجة «التأثر الحرج» كي تنفجر بالبكاء والعيون بالدموع «ترى أعينهم تفيض من الدمع ممّا عرفوا من الحق» (المائدة: 83). ويصل هذا القانون إلى المجتمعات. فكما أن درجة غليان الماء لا تحدث إلا بـ«الدرجة الحرجة»، وهي 100 سنتيجراد، فلا يتم الغليان حتى تصل الدرجة المتجانسة للماء كلّه الموضوع على بؤرة التسخين إلى درجة 100 سنتيجراد. وكذلك الحال في التغيرات الاجتماعية الكبرى التي تتخمر فيها الأحداث وتحبل فيها الليالي، فلا يحدث الغليان ما لم يصل إلى الدرجة الحرجة. وهكذا فـ«الماء» حتى يغلي لابد له من «الدرجة الحرجة»، والقنبلة الذرية تحتاج لانفجارها إلى «الكتلة الحرجة»، والجبن حتى يُحفظ يحتاج لـ«الوسط الحرج»، والتغيير الاجتماعي لابد له من كتلة إنسانية حرجة، سواء نوعياً أو كمياً، حتى يتم الإصلاح المنشود. ولتبسيط الموضوع أكثر نقول، كما أن خبراء السوائل أو الأطباء عندهم من الأجهزة ما يحكمون به على تشبّع الوسط بالكمية الحرجة، أو الغليان بالوصول إلى الدرجة الحرجة، كذلك يفعل خبراء المجتمع سبراً وقياساً وإدراكاً، بل وتنبّؤاً عن تغير المجتمع.