على عادة فقهاء الدِّين لا يُفتى ولا يُصرح إلا بعد سؤال، فيأتي الجواب، وقد سأل علي عباس البيضاني السَّيد مقتدى الصَّدر، بخصوص أفعال الميليشيات: «إن ما يشهده العراق من انفلات لكثير من الميليشيات المسلحة، والتي عاثت في الأرض فساداً، من قتل وخطف وانتهاك للحرمات، وخصوصاً في بغداد الحبيبة، بحيث أصبحت كأنها ثكنة عسكرية، فلم يعد أحد في مأمن، وآخر ما حصل في حادثة اغتيال الشيخ قاسم سويدان الجنابي مع مجموعة من مرافقيه، واختطاف أحد النواب في نفس الحادث.. وقد وقفتم ضد هذه التوجهات، لتحافظوا على وحدة العراق وأمنه. فما تعليقكم على هذه الرزية؟ جزاكم الله. 27 ربيع الثاني 1436» (موقع كتلة الأحرار الرسمي). عرض لاستفتاء (17 فبراير 2015) قضية خطيرة، تحدث بها آخرون ووصفوا بأعداء للطائفة التي تنتسب إليها الميليشيات، حتى صار البيضاني، وهو من طائفة الميليشيات، ومن تيار أسس وجمد ميليشيات، ليس بآمن، فإثرها جمد الصدر «سرايا السلام» و«لواء اليوم الموعود» الذي استثني عندما جُمد «جيش المهدي» (2007)، وقد كان الفصيلان المسلحان مع «الحشد الشعبي»، على أمل أن يتحول إلى حشد وطني. معنى هذا أن إرهاب الميليشيات وصل إلى حد بعيد، مع وجود ضباط إيرانيين (ومازال قاسم سليماني نفسه موجوداً) يتصدرون قيادات الحشد الشعبي، أو الجيش الرديف، عندهم الولاء المطلق لولاية الفقيه، وقد أصبح الأمر معلناً. فكيف تُحارب «داعش»، أو يُطلب من المناطق التي تريد تلك الميليشيات الثأر منها لما تفعله «داعش»، أن تحارب التنظيم بجدية، وبدونها يصعب التفوق على «داعش»، وهذا ما يُذكر بـ«القاعدة» وإزاحة أبي مصعب الزرقاوي (قتل 2006) عن فيافي الأنبار، بفعل الصحوات. أجاب الصدر: «ألم أقل لكم بأن العراق لا يعاني من شذاذ الآفاق فحسب، بل سيعاني من المليشيات الوقحة أيضاً. ألم أقل لكم إنه يجب تسليم الجيش زمام الأمور. ألم أقل لكم إن الحقبة السابقة قد أفاءت على العراق بازدياد نفوذ المليشيات وشذاذ الآفاق، وتسلطهم على رقاب الشعب المظلوم، ألم أخبركم بأن هناك من يريد المساس بأمن العراق واستقراره ويسعى لإضعاف الحكومة الجديدة». وبما يخص الاختطاف والقتل أجاب الصدر: «على أتم الاستعداد للتعاون مع الجهات المختصة للعمل على كشف المجرمين الذين قاموا بتلك الجريمة النكراء. إن إراقة الدم الشيعي لا تعني أن نعتدي على غيرنا بغير حق، فالتشدد هو الذي أضعف الأعداء، فهلموا معاً إلى أن نتحلى بالاعتدال ونبذ العنف والتشدد». ما قاله زعيم التيار الصدري قاله ضحاياه، ولم يصدقهم أحد، فصوت الضحية مع قوة الألم لا يُصدق في أجواء الهيمنة، وكذلك في أجواء السلطات الاستبدادية يبقى الضحية محملاً بجريمة لم يقترفها، لكن أن يصل الصوت عبر أحد الأقطاب وبهذا الوضوح فهو أمر آخر، ودلالة تقول: لقد بلغ السَّيل الزُّبى، ومَن قالها مِن قبل صار عدواً للطائفة التي تنتسب إليها «الميليشيات الوقحة»، مع أن الإرهاب على العموم لا مذهب ولا دين له، فما ذنب كل سني يُحسب على «داعش» الإرهابية، وبالمقابل ما ذنب كل شيعي يُحسب على الميليشيات الوقحة؟ وسيُحسب مقتدى الصدر، عند الطائفيين، عدواً للشيعة، ولا تشفع له عمامته ولا أسرته، لأنه مثلما يُقال «سبَّ العنب الأسود»، أي أيقونة الطائفية (الميليشيات). أقول: إن كل ميليشيا دينية أو غير دينية ينطبق عليها وصف الوقاحة، فحمل السلاح خارج ضوابط المواطنة والجهات الرسمية، والاستعراض به وسط المدن، لا يعني غير القتل والترهيب بلا قيود. يتذكر الأحياء أفعال ميليشيا «الحرس القومي» (1963) كيف أذل شبابُها بسلاحهم المصري (بور سعيد)، على مدى تسعة شهور، ومِن قبلهم تجاوزات «المقاومة الشعبية» (1959). إن الأمر عند الميليشيا المسلحة الجميع متهمون وأعداء، وكم يتعاظم الأمر إذا سُعر بالطَّائفية وغذي بشعار مقدس: «يا لثارات الحسين»! أرى في الميليشيات الوقحة قوة لـ«داعش»، مثلما «داعش» قوة لها. لا تُهزم «داعش» إلا بجيش وطني، والنَّوايا موجودة عند الأطراف كافة. لكن مَن المسؤول عن تحول الجيش إلى جيش فضائي، وتأسيس عشرات الميليشيات؟ السَّبب أنهم لم يغادروا كهوف المعارضة إلى رحاب الدولة، ففاجعة عندما تتقدم ميليشيا تقاتل «داعش» رافعة صورة زعيم دولة أجنبية وتعترف بدعم حكومي سابق لها، هل تعتقدون أن هذا يفت في عضد «داعش» أم يقويها؟!