برز مؤخراً نموذج لقائدين مختلفين أتيحت لنا فرصة متابعتهما في واشنطن، الأول نموذج رجل الدولة المستوعب للحقائق الدبلوماسية، والمستبصر للمستقبل البعيد، فيما الثاني ليس أكثر من سياسي مشغول أساساً بنجاحه الانتخابي ولا يرى أبعد من المدى القريب. وفي حالتنا يجسد الرئيس أوباما نموذجاً لرجل الدولة بمهاراته الدبلوماسية الواضحة، بينما يجسد نتنياهو نموذج السياسي الباحث عن مكاسب آنية. وكلاهما حظيا مؤخراً بتغطية إعلامية واسعة على خلفية الخطاب الذي ألقاه نتنياهو أمام جلسة الكونجرس المشتركة، حيث كان الهدف المعلن وقف اتفاق أميركي محتمل مع إيران يعتبره رئيس الوزراء الإسرائيلي «اتفاقاً سيئاً» فيما الهدف الحقيقي هو الفوز في الانتخابات الإسرائيلية المقررة في 17 مارس. ومع أن نتنياهو نفى وجود أي أجندة سياسية لزيارته لواشنطن، فإن الجميع يعرف أغراضه الانتخابية ولا يشك فيها. ولعل ما يعزز هذه الأجندة التي جاء بها نتنياهو، الأسلوب الذي نظمت به الزيارة بعد أن رتب له السفير الإسرائيلي في واشنطن حيثياتها، مقنعاً زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب، جون بينر، بتوجيه الدعوة لنتنياهو دون استشارة البيت الأبيض. والحال أن هذه الطريقة تمثل خرقاً للأعراف المتفق عليها في العلاقة بين الكونجرس والبيت الأبيض، إذ عادة ما لا يوجه الكونجرس دعوة إلى قائد أجنبي دون استشارة الرئيس. بيد أن نتنياهو لم يكن الوحيد الحامل لأجندة سياسية قادم بها من إسرائيل، بل تقاطعت معه رغبة الجمهوريين في الكونجرس إعاقة أي تشريع يطرحه البيت الأبيض ووضع العراقيل أمام أوباما، لذا فقد استغلوا فرصة قدوم نتنياهو لإيصال رسالتهم عبر زعيم أجنبي بأنهم يرفضون اتفاقاً نووياً مع إيران، على أمل أن يلحق هذا الظهور أمام الكونجرس ضرراً كبيراً بسياسات أوباما، أو على الأقل، الإساءة إلى سمعته كرئيس. وكما كان متوقعاً، برع نتنياهو في خطابه الذي استمر ساعة كاملة في طرح الحجج والتوسل بالعاطفة، مستدعياً الهولوكوست وموظِّفاً التاريخ، كما استشهد بمقاطع من الإنجيل تحيل إلى معاناة اليهود عبر العصور. لكن ردة فعل أوباما جاءت متسقة مع صفات رجل الدولة ليحافظ في رده على هدوئه وصرامته. فقد أدرك أن ما يسعى إليه نتنياهو هو خلق ضجة في واشنطن، وهو يعرف موقف نتنياهو من الانتخابات الرئاسية لعام 2012 عندما أيد بصورة علنية منافسه، ميت رومني، ورغم كل ذلك جاءت ردة فعل أوباما متزنة وبعيدة عن التشنج، ليكون بذلك نقيض نتنياهو في خطابه التحريضي. فمباشرة بعد انتهاء نتنياهو من كلمته أمام الكونجرس، عقد أوباما مؤتمراً صحفياً خلا من اللغة العاطفية، مركزاً على حجج عقلية ومنطقية للرد على رئيس الوزراء الإسرائيلي ودحض فكرته. وفي أسباب معارضة نتنياهو للاتفاق النووي مع إيران، أنه يتعين تفكيك القدرات النووية الإيرانية بالكامل، وأن تتعهد إيران بوقف نهجها العدائي والامتناع عن دعم «الإرهاب». والحال أن مثل هذه الشروط غير واقعية، فعلى غرار العديد من الدول، تستخدم إيران الطاقة النووية لأغراض سلمية، أو هذا ما تقوله، وهي من الموقعين على معاهدة عدم الانتشار النووي التي تسمح لها بالاستخدام السلمي للطاقة النووية. أما الهدف من المفاوضات الجارية حالياً بين طهران ومجموعة 5 + 1 فهو منع إيران من تطوير السلاح النووي، وهو ما تتفق عليه القوى المفاوضة، وترفضه إسرائيل. وفيما يتعلق بمطلب وقف إيران لسياستها الإقليمية ودعمها للإرهاب المهدد لإسرائيل، فالأمر ليس مدرجاً على أجندة المفاوضات مع إيران، لأن الأولوية الآن هي للبرنامج النووي. والمعروف أيضاً أنه في المفاوضات لا يمكن الحصول على كل شيء، لذا يبقى الانشغال الأهم هو منع الانتشار النووي بوضع نظام صارم من الضمانات يحول دون امتلاك إيران للسلاح النووي. وكان أوباما واضحاً في رده على خطاب أوباما عندما شدد على أن الأهم في هذه المرحلة هو التأكد من وقف الطموح النووي الإيراني وحصره في المجال السلمي، أما وضع شروط إضافية على إيران وإدراجها في أجندة المفاوضات، فليس جزءاً من الأولويات الراهنة. ومع أن المفاوضات ما زالت مستمرة وقد لا تحقق في النهاية الغرض المرجو منها، فسيكون من المؤسف حقاً أن ينجح نتنياهو في حرفها عن مسارها وإجهاضها حتى قبل أن تتكشف نتائجها. هذا ناهيك عن أن رئيس الوزراء الإسرائيلي لم يطرح أي بديل معقول، بحيث سيؤدي فشل المفاوضات إما إلى حرب جديدة في الشرق الأوسط، أو وصول إيران فعلا إلى القنبلة النووية.