مخاوف العرب من تدخلات إيران وشكوكهم في نيات أميركا من "الحرب على داعش" تتنامى، فهم لا يعتبرون أن الاسرائيلي ناطقاً باسمهم ولا يشعرون بأن التطمينات الأميركية كافية. طالما أن المفاوضات النووية مستمرّة على خلفية وجود عناصر جدّية لإبرام اتفاق، فهذا يعني ببساطة أن الاختراق الذي سعى إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي - إما لفرض نسف "الاتفاق" أو لإدخال شروط جديدة يمكن أن تؤجله - لم يحقق هدفه. كان مفهوماً لدى جميع المعنيين أن نتنياهو يعمل لمصلحة نتنياهو، فقط لا غير، ويهمّه أن يعزز حظوظه المتأرجحة في انتخابات السابع عشر من هذا الشهر حتى لو تطلّب الأمر أن يجازف بالتدخل في الصراع بين الإدارة الأميركية والحزب "الجمهوري"، وليست شعاراته المكرورة والمستهلكة عن "أمن اسرائيل" و"وجودها" سوى ذرائع ابتزازية للمحاججة واستدراج "صفقة" موازية لصفقة الاتفاق النووي. فمنذ بدايات التفاوض مع ايران كان أمن اسرائيل أحد العناصر الأساسية للتوافق المسبق بين الدول الست، ولم يكن التزامه روسياً وصينياً أقل من التزامه أميركياً، ولذلك فإن المزايدة الإسرائيلية لا تتعلّق باتفاق تقرّه الدول الكبرى بل بتداعيات ما بعد الاتفاق. كان مجرد دعوة زعيم "ليكود" لإلقاء خطاب أمام الكونجرس منبّهاً الى مدى الانحدار حتى في السياسة الأميركية الداخلية. ف"الجمهوريون" أرادوا استخدام طرف خارجي هو نتنياهو، وهو تباهى بأنه يستخدمهم، بعدما تيقنوا من أن اوباما في طريقه إلى انجاز دبلوماسي سيُحسب له في إرثه وسيصعب تعطيله لاحقاً بعد أن تقرّه الدول الـ5+1 ثم مجلس الأمن الدولي. ويُفترض أن يضع "الاتفاق" حدوداً للبرنامج النووي الإيراني عبر محدّدات تقنية (عدد أجهزة الطرد المركزي، مخزون اليورانيوم المخصّب بنسبة 20 في المئة العالية، وفرض نسبة قصوى للتخصيب في حدود 5 أو 7 في المئة)، وأن يضمن بالرقابة المشددة لفترة طويلة عدم تحوّله فجأةً وسريعاً من استخدام سلمي - مدني إلى أغراض عسكرية. في المقابل تحصل إيران على رفع العقوبات الدولية، التي أوهنت اقتصادها. في حدود هذه الشروط، فإن اتفاقاً كهذا لا يشكّل في حدّ ذاته خسارةً لأحد، حتى لو كانت حسابات المصالح تظهر وجود مستفيدين منه، أقلّ أو أكثر. لكن الأهم أن "الاتفاق" يجب أن ينهي "الأزمة النووية"، تلك الأزمة التي تكشّف منذ أعوام أنها كانت ولا تزال قاطرة خبيثة وملتبسة استقلّتها إيران وإسرائيل والولايات المتحدة لتمرير أسوأ الانتهاكات والاعتداءات والتواطؤات وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي كانت بلدان وشعوب عربية ضحية لها. فالصراعات التي أطلقتها تلك الأزمة هي التي أدّت إلى "تمكين" إيران من (الهيمنة في أربع دول عربية)، وإلى مزيد من "التحصين" بالنسبة لإسرائيل (حروب غزّة، التدمير المنظّم لمقوّمات أي سلام مستقبلي)، وإلى تغطية سياسات مستهجنة للولايات المتحدة (دعم صعود جماعات "الإخوان المسلمين" وسائر الإسلاميين إلى السلطة، وعدم التدخل لوقف تدمير سوريا، والسكوت عن الدور التخريبي الإيراني في سياق "الحرب على داعش"). واقعياً لم يتعلّق خطاب نتنياهو بالخطر النووي الإيراني الذي ضمنت إسرائيل، في أقل تقدير، أنه حسم جزئياً في المدى المتوسط ومن الممكن حسمه كلياً في المدى الطويل. كان الخطاب في جوهره مساءلة للادارة الاميركية عن "ما بعد الاتفاق"، فإسرائيل تريد أن تكون لها كلمة في الترتيبات الاقليمية المقبلة، ولذلك بدا الخطاب في بعض أجزائه كأنه مرافعةٌ عن العرب، أو كأن صاحبه مفوّضٌ من جانب العرب، لكنه تلاعب على الحقائق. ففي المنظار العربي لا اختلاف بين إسرائيل وإيران اللتين ساهمتا، ماضياً وحاضراً، في إفساد استقرار المنطقة، سواء عندما كانتا متحالفتين أو عندما غدتا متصارعتين. والأكيد أن دوافع نتنياهو لم تكن الدفاع عن العرب، وإنما إبلاغ من يلزم أن التطبيع بين واشنطن وطهران لا يكفي لتغطية النفوذ الإيراني، بل لابدّ أن يمرّ بتطبيع إيراني - إسرائيلي. في دحضها لإدّعاءات نتنياهو، قالت مصادر أميركية إن خطابه لم يركّز على إنجاح المفاوضات النووية بالتوصّل إلى "اتفاق جيّد" بل تناول عملياً ضرورة "تغيير النظام" في ايران. وقد عنى ذلك أن إدارة أوباما ليست في هذا الوارد، أي أنها غير منزعجة من ممارسات هذا النظام داخلياً ومتكيّفة مع توسّعاته اقليمياً. وكانت هذه الإدارة خشيت أن "يتماهى" العرب مع خطاب نتنياهو، لكن مخاوف العرب من تدخلات إيران وشكوكهم في نيات أميركا من "الحرب على داعش" تتنامى باستمرار، والأكيد أنهم لا يعتبرون أن الإسرائيلي ناطقاً باسمهم، ولا يشعرون بأن التطمينات الأميركية كافية.