في الثالث من مارس الجاري حل رئيس الوزراء الإسرائيلي بالكونجرس الأميركي، وألقى خطاباً نارياً بذل فيه المستحيل كي يكسر توجه الرئيس الأميركي نحو عقد اتفاق مع إيران حول ملفها النووي. اعتبر نتنياهو هذا الاتفاق (قبل أن تتكشف تفاصيله الكاملة) اتفاقاً بالغ السوء لأنه لن يمنع إيران من امتلاك سلاح ذري، وحرص على أن يقول إن البديل ليس هو الحرب وإنما اتفاق أفضل. وقد بدا الموقف بالغ الغرابة ليس لأن نتنياهو يدافع عما يتصور أنه مصلحة بلاده ولكن لأنه اختار أن يفعل ذلك بمهاجمة سياسة رئيس دولة عظمى ذات سيادة في عقر داره، ومن على منبر السلطة التشريعية في دولته! وأعتقد أن هذه هي السابقة الأولى في تاريخ العلاقات بين الدول، ويتداعى إلى ذهني هنا ما فعله القذافي أثناء زيارة له إلى تونس عندما اختار أن يروّج لأفكاره غير المألوفة في محفل رسمي لكن بورقيبة كان يشاهدالخطاب كما فعل أوباما وسارع من فوره إلى اللحاق بالقذافي قبل أن يتم خطابه ورد بعد انتهائه رداً بليغاً عليه. وأعلم أن تقاليد السياسة الأميركية لم تكن لتسمح بهذا، لكني استدعيت الواقعة كي أدلل على الحال الذي وصل إليه النفوذ الصهيوني على السياسة الأميركية. ومن الأهمية بمكان أن نحاول إجراء حسابات المكسب والخسارة لمثل هذا التصرف الخارج على كل مألوف، فليس صحيحاً أن يتصور البعض أن هذا العمل لا يحمل في ثناياه إلا المكاسب، ومن الحقيقي أن استقبال الكونجرس لخطابه كان كالعادة بالغ الحماس فقد قوطع من أعضائه بالتصفيق وقوفاً خمساً وعشرين مرة، لكن العبرة هنا بالأثر على سلوك الكونجرس، وهل ينجح نتنياهو في دفعه إلى إصدار تشريع يعرقل الاتفاق أو يضع شروطاً صارمة لعقده حتى يفي بمتطلباته. من ناحية أخرى ينبغي ألا ننسى أن خمسة وعشرين عضواً ديمقراطياً قد قاطعوا الاجتماع، وقد يبدو الرقم قليلاً لكنه كبير بمعيار السوابق التي كان عدد لا يزيد عن العشرة يختلف فيها عن السلوك المؤيد لإسرائيل. كما أنه قد يتعين علينا الانتظار بعض الوقت كي نعرف الأثر النهائي لما فعله نتنياهو على الرأي العام الأميركي، وهل تشارك الأغلبية فيه نتنياهو في رؤيته لسوء الاتفاق. وسيكون لهذا كله بالتأكيد تأثيره على درجة التأييد الشعبي الأميركي لإسرائيل، ويلاحظ بالإضافة إلى هذا أن التعليقات الإعلامية الأميركية لم تكن بالضرورة مواتية لإسرائيل، وقد وصفت صحيفة «نيويورك تايمز» الخطاب بأنه غير مقنع ولا يحمل جديداً. غير أن حسابات المكسب والخسارة تمتد إلى إسرائيل بدورها، إذ لا يبدو أن نهجه التصعيدي بات بالضرورة مقنعاً للإسرائيليين، ولا تشير استطلاعات الرأي العام إلى أن حظوظه مؤكدة في الفوز بالانتخابات، أو ربما يفوز بفارق ضئيل للغاية عن أقرب منافسيه، وثمة ما يشير إلى أن الإسرائيليين أنفسهم بدأوا يرون أن نتنياهو يقودهم في طريق مسدود ويستعدي العالم عليهم. واعتبرت تسيبي ليفني عضوة «الكنيست» الاسرائيلي وأهم منافس لنتنياهو في الانتخابات المقبلة أن خطابه أمام الكونجرس زاد من عزلة إسرائيل وأفقدها قدرتها على التأثير في قضية المشروع النووي الايراني. وكتب المحلل السياسي لصحيفة «معاريف» أن الخطاب سبّب ضرراً أكبر من الفائدة ودشن حملة سخرية من نتنياهو بقوله إنه في حال فشل المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وإيران سيسارع إلى القول إن ذلك بفضل خطابه تماماً كالبرغوث على ظهر الثور الذي يقول بعد يوم عمل متعب في الحقل «لقد حرثنا»! وكتب يوسي مليمان في الصحيفة نفسها أيضاً يقول إن نتنياهو لو كان يرغب في تغيير الواقع فقد كانت لديه ست سنوات للقيام بذلك عندما شغل منصب رئيس حكومتين متتاليتين. كما كتب يوسي فيرتر في صحيفة «هآرتس» يقول إن مناحم بيجين انتصر في الانتخابات عام 1981 بشن هجوم صاروخي على المفاعل النووي العراقي، وإن نتنياهو يأمل في الفوز بانتخابات 2015 بشن هجوم كلامي، ومن كل ما سبق يتضح أن النتائج النهائية لاستعراض نتنياهو في الكونجرس لم تتم فصولاً بعد.