تتضمن حزمة الاضطرابات العقلية مجموعة متنوعة من الأمراض والعلل، مثل الاكتئاب، والشيزوفرينيا أو الفصام، والعتَه أو الخرف العقلي، والقصور الذهني والفكري، والهوس الاكتئابي، والإعاقات الإنمائية أو التطورية مثل التوحد، وغيرها. وبناء على أن منظمة الصحة العالمية تعرّف «الصحة» على أنها ليست مجرد الخلو من الأمراض، وإنما هي حالة مستقرة ومتكاملة من العافية: البدنية، والعقلية، والاجتماعية. ولذا تدل الصحة العقلية (Mental Health)، في مفهومها العام، على منظومة واسعة من النشاطات التي تتعلق -بشكل مباشر أو غير مباشر- بالعافية العقلية، مثل إجراءات الوقاية من الاضطرابات العقلية، وتدابير علاج وتأهيل الأشخاص المصابين بهذه النوعية من الأمراض. وتشير البيانات والإحصاءات إلى معدل انتشار واسع لمثل هذه النوعية من الاضطرابات، حيث يقدر مثلًا أن الاكتئاب وحده يصيب حوالي 400 مليون شخص حول العالم، وبمعدلات أعلى بين النساء مقارنة بالرجال، بينما يصيب الهوس الاكتئابي، أو الاضطراب ثنائي القطب، حوالي 60 مليوناً آخرين. وعلى المنوال نفسه يصيب الفصام، وبقية أنواع الذهان الأخرى، 30 مليون شخص، أما العتَه والخرف فيقدر أنهما يصيبان حالياً 35 مليون شخص، وهو العدد الذي يتوقع له أن يزداد باطراد خلال السنوات والعقود القادمة، مع تزايد ظاهرة شيخوخة المجتمعات، أو ارتفاع متوسط العمر لأفراد المجتمع، وما سيصاحبه من زيادة حالات عتَه أو خرف الشيخوخة. ويمكن إدراك حجم الثمن الإنساني والاقتصادي للاضطرابات العقلية من وثيقة أطلقتها حديثاً منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، التي تضم في عضويتها 34 دولة، كعضو كامل العضوية، بالإضافة إلى 15 دولة كعضو ملتحق، والهادفة لمنح فرصة لحكومات البلدان المتقدمة التي تقبل مبادئ الديمقراطية التمثيلية واقتصاد السوق الحر، لمقارنة التجارب السياسة، والبحث عن إجابات للمشاكل المشتركة، وتحديد الممارسات الجيدة، وتنسيق السياسات المحلية والدولية. وتضمنت هذه الوثيقة بعضاً من الحقائق المثيرة، مثل أن واحداً من كل 5، أو 20 في المئة من أفراد مجتمعات الدول العضو في المنظمة، يعانون حالياً من اضطراب عقلي. كما أن واحداً من كل اثنين من البشر، سيعاني من اضطراب عقلي ما، خلال إحدى مراحل الحياة المختلفة. والغريب أنه على رغم أن معدلات الانتحار -الناتجة في الغالب عن تلك الاضطرابات العقلية- قد انخفضت في دول المنظمة بنسبة 20 في المئة منذ عام 1990، إلا أن كوريا- إحدى الدول أعضاء المنظمة- قد ارتفعت فيها معدلات الانتحار خلال نفس الفترة بنسبة 100 في المئة. فمن بين كل 40 وفاة تحدث حالياً في كوريا، يكون الانتحار سبباً في واحدة منها. وتقدر المنظمة أن التكلفة الاقتصادية للاضطرابات العقلية، تزيد عن 4 في المئة من مجمل الناتج القومي السنوي، وهو ما يترجم إلى مئات المليارات من الدولارات، على أساس أن الدول الأعضاء في المنظمة تعتبر هي أكثر الدول تقدماً، على الصعيد الصحي والتكنولوجي والصناعي، وتشكل اقتصاداتها أكبر اقتصادات في العالم، على صعيد مجمل الناتج القومي السنوي. وللأسف، لا تتماشى أو ترقى معدلات الإنفاق على الصحة العقلية في نظم الرعاية الصحية المختلفة، مع العبء المرَضي الناتج عنها، على رغم أن الأشخاص المصابين باضطراب عقلي، غالباً ما يكونون أقل فعالية في أداء وظائفهم، وأضعف إنتاجية في عملهم، وأكثر عرضة للغياب من العمل، أو أن يكونوا عاطلين عن العمل من الأساس. حيث تظهر الدراسات أن الأشخاص المصابين بمستويات بسيطة إلى متوسطة من الأمراض العقلية، يصبحون عاطلين عن العمل بمقدار ضعفين إلى ثلاثة أضعاف، مقارنة ببقية أفراد المجتمع، وترتفع هذه النسبة إلى ستة أو سبعة أضعاف، بين المصابين بالدرجات الحادة والشديدة من الأمراض العقلية. وتشير وثيقة المنظمة إلى حقيقة غريبة هي أن الأشخاص المصابين بالأمراض العقلية، معرضون للوفاة المبكرة، وبمقدار 20 عاماً، مقارنة بالأشخاص الأصحاء عقلياً. وهو ما يؤكد نتائج دراسة سابقة، نشرت في إحدى الدوريات المتخصصة في الأمراض العقلية والنفسية، وأظهرت أن المرضى المصابين بأمراض عقلية خطيرة، مثل الفصام، أو الاضطراب ثنائي القطب، يقل متوسط أعمارهم بمقدار 10 أو 15 عاماً، مقارنة بمتوسط الأعمار في بريطانيا. وتجسد مثل هذه الحقائق والدراسات، حجم العبء المرَضي (Disease Burden) الناتج عن مدى انتشار الاضطرابات العقلية حول العالم، وهو العبء الذي يعبر عن تأثير مشكلة صحية في منطقة ما، على صعيد عدد الوفيات، وعلى حجم الإعاقات التي تتسبب فيها، بالإضافة إلى التبعات الاقتصادية التي تنتج عنها.