بعد توقف التحقيقات القضائية مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، وعودته مجدداً إلى واجهة الحياة السياسية بانتخابه رئيساً لحزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية»، تكرس الاعتقاد بأن ملف قضايا الفساد المثارة ضده أصبح قريباً من الإغلاق نهائياً. لذلك فإن الكثيرين فوجئوا بتوقيف أحد أبرز مقربيه، وهو كلود غيان الذي كان ذراعه اليمنى ووزير داخليته السابق. فقد تم إيقاف غيان، الجمعة الماضي، في إطار التحقيق حول اتهامات بتمويل نظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي لحملة ساركوزي لانتخابات الرئاسة عام 2007. وكلود غيان سياسي فرنسي ووزير سابق، كان حاكماً ومحافظاً لمناطق وجهات عديدة في فرنسا، وأصبح أميناً عاماً لرئاسة الجمهورية عقب وصول ساركوزي إلى الأليزيه، قبل أن يصبح وزيراً لداخليته. وقد ولد كلود غيان عام 1945 في «فيمي» (با-دو-كاليه)، لوالده روبرت غيان (موظف بإحدى شركات النقل) ووالدته مادلين وكليرك (معلمة). وبعد اجتيازه امتحان اللغة الإنجليزية، ذهب للدراسة في الولايات المتحدة مدة عام، ثم عاد ليتخرج من كلية الحقوق في باريس، ومن معهد الدراسات السياسية والمدرسة الوطنية للإدارة، عام 1971. وفي ذلك العام أصبح كاتباً لحاكم مقاطعة فينيستير في الشمال الغربي الفرنسي، ثم سكرتيراً عاماً للشؤون الاقتصادية لمقاطعة جوادلوب الفرنسية في البحر الكاريبي عام 1973، قبل أن يصبح المستشار الفني لوزير الداخلية «كريستيان بونيه» عام 1977. وخلال السنوات اللاحقة عمل محافظاً لمقاطعة «سانتر فال دو لوار»، وأميناً عاماً لمحافظة هيرولت ثم لمحافظة «هوت دو سين»، قبل تعيينه محافظاً للألب العليا عام 1991. وفي عام 1994 عمل نائباً لمدير ديوان وزير الداخلية شارل باسكوا، والذي لم يلبث أن عينه مديراً تنفيذياً للشرطة الوطنية. لكن بعد أربع سنوات عُين محافظاً لـ«فرانش-كومبتيه»، ثم لـ«بريتاني» عام 2000. وفي تلك المرحلة وطّد غيان علاقته الشخصية بساركوزي، الذي أصبح وزيراً للداخلية في عام 2002، فعين غيان مديراً لمكتبه، وحين ترشح لانتخابات الرئاسة عام 2007 اختاره مديراً لحملته الانتخابية، ثم ما أن تسلم ساركوزي مهامه في الأليزيه حتى عين غيان أميناً عاماً للرئاسة في مايو 2007، ثم عينه في فبراير 2011 وزيراً للداخلية. وخلال هذه المرحلة صنفته المعارضة الاشتراكية على يمين حزبه «الاتحاد من أجل حركة شعبية»، واتهمته بانتهاج ذات الخط اليميني المتشدد لحزب «الجبهة الوطنية»، خاصة فيما يتعلق بالمهاجرين المسلمين والأفارقة، مشيرين لتصريحات يقول فيها: إنه لا مكان في فرنسا لمن يحملون «رؤية للعالم ولكرامة المرأة تختلف عن رؤيتنا». كما اشتُهر خلال توليه حقيبة الداخلية بمعارضته أي تقنين لاستخدام القنب في فرنسا، وبالإجراءات المشددة التي اتخذها في مجال السلامة المرورية. وبعد مغادرته الحكومة، خاض غيان الانتخابات النيابية في 2012 مرشحاً عن حزبه في الدائرة التاسعة في «هوت دو سين»، لكنه هزم على يدي تييري سولير، المنشق على «الاتحاد من أجل حركة شعبية». وبعد هزيمة ساركوزي في الانتخابات الرئاسية عام 2012 اتجه غيان إلى العمل الخاص، حيث استفاد من قانون يسمح لكبار الموظفين السابقين، ممن عملوا في مجال الإدارة أو القضاء مدة تتجاوز ثماني سنوات، بممارسة المحاماة، وعينته إحدى شركات التعدين العاملة في الجابون والكاميرون مستشاراً استراتيجياً لديها عام 2013. لكن ملف فضائح التمويل الليبي بدأ يتكشف تدريجياً منذ خريف عام 2011 حين طالب سيف الإسلام القذافي بإعادة الأموال التي دفعها والده لصالح حملة ساركوزي في انتخابات 2007، بعد أن تغيرت العلاقة بين الرجلين من التحالف إلى العداء، إذ تصدرت فرنسا حملة القصف الجوي ضد ليبيا خلال الانتفاضة الشعبية على نظام القذافي. ولم يلبث موقع «ميديا بارت» الفرنسي أن نشر وثائق توضح أن حملة ساركوزي تسلمت 500 مليون دولار من القذافي. وقد تم توقيف غيان للمرة الأولى في نهاية 2013، وللمرة الثانية في مايو 2014، ثم تم توقيفه مرة أخرى يوم الجمعة الماضي، لوجود أدلة مستجدة في ملف التمويل الليبي لحملة ساركوزي. فقد اتضح أن غيان قام بعدة رحلات إلى ليبيا بين عامي 2005 و2007 للاجتماع بكبار المسؤولين في نظام القذافي حول قضايا الهجرة السرية ومكافحة الإرهاب، وللتفاوض كذلك، رفقة زياد تقي الدين- رجل الأعمال اللبناني المقرب من ساركوزي أيضاً- حول صفقات تجارية تشمل مبيعات الأسلحة وحقول الغاز لصالح شركة «توتال» الفرنسية. واتضح من شهادة تقي الدين، المسجون حالياً، أن غيان كان على صلة مباشرة ببعض المقربين من القذافي، مثل بشير صالح (مدير مكتبه) وعبدالله السنوسي (مدير مخابراته العامة)، وموسى كوسا (مدير مخابراته الخارجية)، وأنه تلقى مبالغ وتحويلات مالية من جانبهم. وإلى ذلك أوضحت التحقيقات دفع 500 ألف أورو في الحساب المصرفي لغيان، علاوة على فواتير مدفوعة بنحو 25 ألف أورو. لكن الوزير السابق برر المبلغين بأنهما ثمن عملية بيع لمحام ماليزي للوحتين تعودان إلى القرن الثامن عشر. بيد أن الخبراء اعترضوا على قيمة اللوحتين، وقالت وزارة الثقافة إنها لم تتلق طلباً بترخيص عملية بيع من ذلك النوع، كما ينص القانون، كما أوضحت الجمارك الفرنسية أن أي إخطار لم يصلها بهذا الشأن. فهل تعني التطورات الأخيرة أنه سيتم استدعاء ساركوزي للقضاء مجدداً في قضية تمويلات القذافي؟ وهل طموحات الرئيس السابق هي السبب وراء توريط وزير داخليته، أم أن شبهات الفساد حول الأخير ستشكل مصدر متاعب إضافية لساركوزي نفسه؟ محمد ولد المنى