ينبهنا عالم الأنثروبولوجيا الأميركي «طلال أسد» أن مفهوم «الدين» في الدراسات الاجتماعية- السياسية المعاصرة، قد هيمن عليه التصور المسيحي الأوروبي المبني على فكرة هيمنة الكنيسة على مختلف المعتقدات والممارسات، وهو التصور الذي استمر في النظم العلمانية الحديثة التي استبطنت في داخلها المنظور اللاهوتي الذي تزعم أنها تحررت منه. ما يشير إليه «أسد» هو أن التصور الكلي الشمولي للدين من حيث كونه يقنن كل أنماط الوجود الفردي والجماعي ليس أطروحة إسلامية أصلية، بل نفذ إلى الأيديولوجيا الإسلامية (تيار الإسلام السياسي) من الخلفية المسيحية الغربية، باعتبار أن مساحة البراءة والإباحة هي الأساس في الاسلام وليس مجال التقنين والضبط المعياري الذي يظل استثناءاً محدوداً. هذا التصور الكلي الشمولي للدين هو الذي انتقل إلى مفهوم الدولة في مهمتها الخلاصية وسيادتها المطلقة، بحيث يمكن القول إن العلمنة وإنْ كانت في أحد وجوهها انفصالاً عن الدين وخروجاً عن سطوته، فهي من وجه آخر تجسيد موضوعي وتاريخي له في شكل الدولة- الدين المطلقة، (وهو الدرس الذي أبرزه الفيلسوف الألماني هيجل بوضوح في فلسفته السياسية). ما كان أطروحة نظرية لدى طلال أسد بينه الفيلسوف الإيطالي «جورجيو أغامبن» في أعماله الأخيرة حول تاريخ القانون الأوروبي الحديث في علاقته بالمباحث اللاهوتية، وهو اتجاه بدأه الفيلسوف والقانوني الألماني «كارل شميت» في كتاباته المنشورة في عشرينيات القرن الماضي. يتساءل «أغامبن»، لماذا أخذ نموذج الحكم في الغرب شكل التصور التسييري للبشر بميزتيه المترابطين: التدبير الناجع والفعال والسلطة الطقوسية ذات المنحى الشعائري؟ يجيب «أغامبن» على السؤال بإرجاع هذا النموذج إلى التقليد اللاهوتي المسيحي الذي يستند إليه النموذج السياسي الأوروبي بدلالته الشاملة، وفق ثنائيته المتمثّلة في الجمع بين عقيدة الإله الواحد المطلق كامل السيادة ولاهوت التدبير للحياة البشرية في وضعها المادي المحايد. يعني هذا النموذج الربط بين مفهوم متعالٍ للسلطة وممارسة عملية إجرائية بحسب المقاربة الإقتصادية التسييرية. وقد نتجت عن المستوى الأول فكرة السيادة التي هي القاعدة النظرية للفكر السياسي الحديث، في حين نتج عن المستوى الثاني مفهوم «السلطة الحيوية»، التي هي آلية الفعل السياسي للدولة في تدبيرها للسكان، وضبطها لأنماط العيش الجماعي المنظم. من المثير هنا أن اللاهوت المسيحي هو الذي ولّد المنظور الاقتصادي قبل أن يصبح هذا المنظور في العصور الحديثة هو نموذج الفعل السياسي ومفتاح تفسيره، وذلك ما يتسنى فهمه بإشكالية الجمع بين عقيدة التوحيد وعقيدة التجسد، أي وحدة الجوهر الإلهي وتعددية تجلياته التي طرحت أسئلة لاهوتية معقدة تتصل بالإنزياح بين الاله وفعله أو بين الوجود والممارسة. ينتج عن هذه الثنائية التمييز بين طبيعة الإله ونمط تدبيره للعالم، بين السيادة المطلقة المقدسة غير الفاعلة وبين نظام العالم، الذي لا يمكن أن يُدار بالمفهوم السياسي اليوناني القديم، الذي يتماهى فيه الوجود والممارسة ، بل بمعايير التدبير المادي على غرار التدبير المنزلي الخصوصي الذي أقصاه فلاسفة اليونان من الدائرة السياسية التي تتحدد بمعيار المشاركة العمومية بما هي أساس مقولة المواطنة. ومن هنا ندرك أن المفاهيم السياسية الحديثة من فكرة الإرادة الذاتية (التي لامعنى لها إلا بانفصال الوجود عن الممارسة)، والسيادة (التي في الأصل سيادة الإله وحاكميته غير المتناهية)، والخلفية الاقتصادية للتدبير السياسي، ترجع لخلفيات لاهوتية قديمة، وليست من نتاج الثورات الاجتماعية والقانونية المعاصرة. الدولة الحديثة هي التي تربط بين مقولة السيادة المطلقة المجردة مع ما يستتبعها من تمجيد واحتفاء طقوسي ونمط من الممارسة السلطوية العملية اتجهت تدريجياً الى شكل التسيير الحيوي المادي للمجموعة السكانية إلى حد اختفاء الفعل السياسي وهيمنة نموذج التدبير الاقتصادي شكلاً أوحد لإدارة «الخيرات البشرية» على غرار تسيير «الخيرات المادية». ليس من همنا الاسترسال في الوقوف على هذه الخلفيات اللاهوتية للتصورات السياسية الحديثة، لكن ما أردنا الوصول اليه هو هل يمكن أن تتأقلم هذه المقاييس مع البنية العقدية الإسلامية في تعبيراتها الكلامية التي كانت حاضرة بقوة ومؤثرة في مقاربات مفكري الفعل السياسي من الفقهاء والمتكلمين، وهو مبحث لا يزال بكراً سنقف عنده لاحقاً. أكاديمي موريتاني