خلال مقابلة تلفزيونية ذكرتُ لسائلي أنني بصدد تأليف كتاب عن التفكير بالدولة في الأزمنة العربية الوسيطة، فقاطعني سائلاً: لماذا هذا الهُجاس بالدولة، أو لماذا تفكر كل يوم فيها؟ هل لافتقار العرب إليها؟! وتنبهتُ بالفعل إلى هذا الاهتمام في كتاباتي القديمة والجديدة. في الكتابات القديمة هناك كتابي الأول «الأمة والجماعة والسلطة»، وكتابي الثاني «الجماعة والمجتمع والدولة». وهناك سلسلة نشرات نصوص الفكر السياسي الإسلامي الوسيط من «الأسد والغواص»، إلى «قوانين الوزارة» و«تسهيل النظر» للماوردي، إلى «الإمارة والوزارة» للمرادي، و«الجوهر النفيس في سياسة الرئيس»، و«تحفة التُرك».. إلخ. وفي كتابات القرن الحادي والعشرين، هناك «الإسلام السياسي»، و«العرب والإيرانيون»، و«الإصلاح السياسي العربي». وهذه الكتابات جميعاً تُعنى بمدارس واتجاهات وطرائق التفكير بالسلطة والدولة في الأزمنة الكلاسيكية الحديثة والمعاصرة. ولذا فإنّ سؤال المضيف يستحق البحث بوعيٍ، ولستُ أريد هنا متابعته لأنه يحتاج تأملا أطْول وأعمق. ما أُريدُ النظر فيه هنا، يتصل بالإشكاليات المعاصرة للدول وتفككها في المجال العربي. وكانت رؤيتي التي عملْتُ عليها طوال أكثر من ثلاثين عاماً أن الدولة ضرورة لا مخرج منها لكل جماعة سياسية. وهي دائماً صناعة نخبة واعية. لكنها عندما تقوم تتعلق قوتها ويتعلق استمرارها بمدى القدرة على الوفاء بحماية المجتمع من الخارج، والإدارة العادلة بالداخل. والدولة تتبع في ذلك أحد سبيلين: سبيل تشكيل الأمة من حولها لحياطتها وتأكيد شرعيتها، أو الاستناد إلى فئة غالبة أو متغلِّبة بالداخل من أجل فرض السيطرة. وكانت النتيجة الأولية التي أفدتُها من دراساتي عن الدولة الكلاسيكية في عالم العرب والمسلمين، أن التعامل مع العصبية العربية ظل واسعاً سياسياً في زمن الراشدين إلى أن قُتل عثمان، فبرزت الحاجة للاستناد إلى العصبية بالمعنى الضيّق، وقد نجح في ذلك الأمويون أكثر من الإمام علي. بيد أن الصراع على السلطة بين نخبتي العصبية والقرابة أفضى إلى انتصار الأخيرة. وبعد العصر العباسي الأول، وبسبب الصراع على السلطة بين شيعة علي وشيعة بني العبّاس، استغنى العباسيون عن كل العصبية العربية، واستعانوا بجنود محترفين من الخارج، فانفصلت الدعوة الدينية عن العصبيات من أي نوع، واحتضنت فكرة الأمة (الدينية). وهكذا ما بقيت للدولة شرعية ذاتية غير الحماية تجاه الخارج! لقد أطلْتُ في المقاربة الكلاسيكية لأُوضح عللَ الافتراق بين الأمة والدولة في الزمن القديم. أما في الأزمنة الحديثة، فإن الحركات الوطنية اكتسبت شعبيةً زاخرةً لنضالها ضد الاستعمار، ولعملها على تنمية الخدمات العامة للمجتمعات. بيد أنها واجهت في مرحلتها الأُولى الواعدة مشكلات ما أمكنها حلها سواء مع الاستعمار أو مع استعمار الصهاينة لفلسطين. لذلك، ورغم شعبيتها المشهودة، زالت بسرعة لصالح العسكريين والأمنيين الذين استناموا تدريجياً لعصبية غالبة، حكمت بالقوة، في مقابل الخدمات الأساسية، والحماية من الخارج. ثم تبين أنه لا حماية من الخارج، وتراجعت القدرة على الخدمات الداخلية، بسبب الفساد وأعباء الارتباط بالسوق العالمي. وأمام تفاقُم هذين العاملين، ازدادت الغربة بين أنظمة الغلبة الفئوية، والجمهور العام، للجوء المسرف للعنف والإرغام والتوريث. كانت الغلبة تستند في زمن الحرب الباردة إلى أحد المعسكرين. وبعد الحرب الباردة إلى تبعية من طبقتين: طبقة القوة الإقليمية، وطبقة القوة الوحيدة. وكان هذا هو الوضع حتى عام 2011، حين تمرد الجمهور على العنف والخوف. وأرادت القوة الأعظم تغيير الفئة الحاكمة لصالح الإسلاميين السياسيين، بينما أرادت القوى الإقليمية استمرار الوضع على ما هو عليه أو المجيء بقوى تصون مصالحها ومناطق نفوذها التي ربَّتْها في ظل سطوة القوة الأعظم. إيران أرادت إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل عام 2010 في سوريا والعراق ولبنان، وتركيا أرادت الحصول على شيء في سوريا، وتصحيح التوازنات لصالحها في العراق. إن التفكك الظاهر في الدول والمجتمعات اليوم يعود لاختراقات الإسلام السياسي في المجتمعات، وغربة بعض السلطات عن مجتمعاتها، وتدخل القوى الإقليمية والدولية.