قطعاً، ليس من المؤكد أن يتم تطبيق اتفاق السلام حول أوكرانيا الذي تم التوصل إليه بجهد جهيد في صبيحة يوم 12 فبراير في «مينسك»، بين الرئيس الروسي بوتين، والأوكراني بوروشينكو، والفرنسي أولاند، والمستشارة الألمانية ميركل. ويبقى وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه هشاً، إلى حد بعيد. ولكن في الوقت الراهن، لابد من الابتهاج لأن اتفاقاً قد تم التوصل إليه من الأساس. لأن هذا يعدّ قبل كل شيء انتصاراً للدبلوماسية، التي وقع التشكيك في جدواها من قبل. ولكننا رأينا الآن ما يمكن أن تحققه، وأقلّه التقريب بين وجهات نظر كانت تبدو غير قابلة للتقارب أو المصالحة، والحديث مع حكومات نحن في صراع معها، وفي هذا درس مفيد لمن يستبطنون بشكل غريزي «روح ميونيخ» -عبارة تستدعى في السياق الأوروبي للإشارة إلى اتفاق وُقع مع ألمانيا النازية سنة 1938- كلما تعلق الأمر بالتفاوض مع بلد ينخرطون في خلاف خطير معه. ويغفل هؤلاء عن حقيقة أن التفاوض، لا يعني بالضرورة الإذعان ورفع الراية البيضاء وقبول كافة إملاءات الطرف الآخر. إن مهمة الدبلوماسية هي الحيلولة دون نشوب الحرب، أو وضع حد لها إن كانت قد نشبت فعلاً. ومن أثروا المقاربة الدبلوماسية هم من انتصر في النهاية على حساب أولئك الذين فضلوا خيار تسخين المعارك من خلال توفير الأسلحة، على أمل تغيير ميزان القوى لصالح أوكرانيا. وكان السكان المدنيون الأوكرانيون هم الضحايا، بطبيعة الحال. والمدنيون هم المستفيدون الآن أيضاً من وقف إطلاق النار. والحال أن ما تحقق يشكل في الواقع انتصاراً للمستشارة أنجيلا ميركل، وللرئيس فرانسوا أولاند، وانتصاراً لفرنسا وألمانيا. وفيه مكسب شخصي ووطني، لكل منهما. وقد تمكنا معاً من تحقيق تقدم كبير. وهذه الوحدة المستعادة للثنائي الفرنسي- الألماني هي التي أفضت، بجهد مشترك، وبعد مخاض عسير، إلى هذا الحل. وكان من الواضح منذ البداية أن أولاند الذي لعب دوراً دافعاً، وأنجيلا ميركل، كانا يتقاسمان القناعة بضرورة إبقاء قنوات اتصال مع فلاديمير بوتين، حتى لو كانا -وخاصة لأنهما- يختلفان جذرياً مع سياسته. أما عزله تماماً فلا يحقق أية مصلحة، ولن يفيد في أية مبادرة للخروج من الصراع. ولا يتعلق الأمر هنا بإذعان لبوتين، وإنما هو سعي لإيجاد حل يمكن أن يرضي جميع الأطراف. وقد مر الآن وقت طويل دون أن تجتمع فرنسا وألمانيا في العمل سوياً لمواجهة موضوع استراتيجي ذي أهمية استثنائية. وكانت آخر مرة تقفان فيها معاً موقفاً مشابهاً هي تلك التي وقفتا فيها ضد الحرب التي أطلقها جورج بوش ضد العراق. وكانت وقفتهما يومها مهمة، لأنها أرت العالم عدم صحة ما كان يتردد من حديث عن «صِدام الحضارات» حيث أظهرت أن العالم الغربي لم يكن متحداً كله في رغبته في الحرب، وهذا مهم، حتى وإن لم يتمكن الموقف الفرنسي الألماني من الحيلولة دون نشوب تلك الحرب نفسها في النهاية. أما في هذه الوقفة الراهنة فقد تمخضت وحدة الموقف بين البلدين عن مخطط سلام واعد في أوكرانيا. وفي هذا الوقت الذي يحلو للبعض الحديث فيه عن حالة الضعف الأوروبي، ها هو الجهد المشترك بين فرنسا ألمانيا يتكشف عن حل لأزمة كبرى جارفة. ومن اللافت هنا، في المقابل، غياب بريطانيا العظمى والولايات المتحدة. ومفهومٌ أنهما لا تتبنيان نفس المقاربة تجاه طبيعة العلاقات التي يتعين اتباعها مع روسيا، هذا فضلاً عن أنهما لم تكونا مندفعتين أصلاً وراء البحث عن اتفاق. ويلزمنا القول إن اتفاق «مينسك» كان أيضاً انتصاراً لـ«منظمة الأمن والتعاون في أوروبا» على حساب الحلف الأطلسي «الناتو». ومما يُذكر في هذا المقام أن الرئيس الراحل فرانسوا ميتران، بالموازاة مع مشروعه عن الفيدرالية الأوروبية، كان يرنو أيضاً في بداية التسعينيات إلى جعل منظمة الأمن والتعاون لاعباً مؤثراً في تحقيق الأمن الجماعي الأوروبي، ولكن الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى أفشلتا هذا المخطط، إذ بدت لهما منظمة الأمن والتعاون كمنافس قوي لـ«الناتو». ومن حيث بنية «الناتو» فهو مدفوع بغريزة حب البقاء، ومعنيٌّ برفع نسبة التوتر لتبرير وجوده. وفوق ذلك فتوسيع الحلف (إضافة إلى برنامج الدرع الصاروخية) هما ما يفسر تشنج موسكو أصلاً، وهو تشنج، للمفارقة، يبرر به أيضاً مسؤولو «الناتو» عملية توسيعه. وهكذا تتداخل دوّامات هذه الحلقة المفرغة. و«الناتو» كإطفائي مصاب بهوس إشعال الحرائق، يضمن أمن الدول الأعضاء، من خلال تغذية إحساس عدم الشعور بالأمان في القارة. وهو يوفر في الوقت نفسه السُّم والإكسير. وفي المقابل فإن ضمان «منظمة الأمن والتعاون في أوروبا» مراقبة الانتخابات والحدود بين أوكرانيا وروسيا، يمثل في الواقع مكسباً لهذه المنظمة، وهو أفضل ضمان أيضاً لتنفيذ الاتفاق. ويمكننا أن نتمنى رؤية دورها يتنامى، لما فيه مصلحة الأمن الجماعي في أوروبا. ولا حاجة أخيراً للتذكير بأن من مصلحة جميع الأطراف المتصارعة التوصل إلى اتفاق. والغربيون، حتى لو لم يقولوها علناً، يدركون في دخيلة أنفسهم أن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم أمر لا راد له. ولكن القرم أيضاً، تاريخياً، وسياسياً، استثناء، وليست سابقة يمكن تكرارها. ووراء ذلك، يتعين في الوقت نفسه ضمان وحدة أوكرانيا الترابية، واحترام حقوق الأقلية الناطقة بالروسية.